20-أبريل-2023
نجيب محفوظ وجورج طرابيشي

نجيب محفوظ وجورج طرابيشي

عندما أصدر جورج طرابيشي كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ"، وصلته رسالة من الروائي المصري الكبير يقول فيها: "بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك، وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عني بأن تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها"..

وإذا كان محفوظ قد انبهر بصدق بصيرة الناقد وقوة استدلاله، فإن في الكتاب شيء آخر يثير الانبهار أكثر، ذلك أنه كتاب نقد ممتع. وواقع الحال أن النقد والمتعة قلما يجتمعان في كتب النقد هذه الأيام، بل صارا، في أحيان كثيرة، نقيضين.

الناقد غدا كاتبًا.. منتجًا لنص يزعم أنه إبداعي أيضًا، وبالتالي فهو ليس مجرد ملحق بنص أدبي آخر، ليس تحليلًا لرواية، أو قراءة دلالية لقصة، أو تعليقًا نقديًا من أي نوع على قصيدة.. إنه نص مستقل

وكذلك فقد صار من النادر أن يتلقى ناقد تقريضًا من كاتب، واعترافًا بأن تحليله دقيق، يثير إعجاب صاحب النص المنقود، وامتنانه.. وسبب الندرة ليس في أن الكتّاب غدوا جاحدين مغرورين، وليس في أن النقاد صاروا بلا بصيرة ولا قدرة على الاستدلال. بل السبب ببساطة هو أن النقد غيّر وظيفته فجأة، وبدلًا من الاهتمام بالنصوص الأدبية ومواكبتها، صار يهتم بنفسه فقط، لنقف أمام كتب نقد عن النقد، في استنساخ غريب لمقولة "الفن للفن" أو "الأدب للأدب".. وهكذا صار لدينا "النقد للنقد".

الناقد غدا كاتبًا.. منتجًا لنص يزعم أنه إبداعي أيضًا، وبالتالي فهو ليس مجرد ملحق بنص أدبي آخر، ليس تحليلًا لرواية، أو قراءة دلالية لقصة، أو تعليقًا نقديًا من أي نوع على قصيدة.. إنه نص مستقل، وإذا ما تحدث عن نص ما فلكي يستخدمه في إنتاج نفسه ليس أكثر..

ثمة نقاد آخرون يكتفون بالتنظير الأدبي، وإذا ما استعرضوا أعمالًا أدبية، فعلى سبيل المثال فقط، عناوين كتب وأسماء كتاب تنفع كوسائل توضيح ونماذج عيانية ليس أكثر..

وبالمقابل يتراجع النقد التطبيقي إلى أضيق الهوامش، إذ صاروا قلائل أولئك النقاد الذين يحفلون برواية أو قصة أو نص مسرحي أو شعري، ويتفرغون لتحليل النصوص وفتح مغاليقها وفك شفراتها والإضاءة على شتى جوانبها..

هذا التراجع حرم قراء الأدب من أضواء كاشفة، ومفاتيح سحرية، واقتراحات ذكية لقراءة أكثر عمقًا وغنى.. وكذلك حرمهم من المتعة، فكتب النقد التي تدور حول النقد، المغلقة على نفسها، هي في الأغلب كتب عويصة، جافة، طاردة للمتعة، ولا تعير القارئ العادي أدنى اهتمام، فالنقد الجديد يكتبه النقاد للنقاد، ولقلة اكتسبت، لسبب أو لآخر، شرف الانتماء إلى نادي النخبة هذا.

في أواخر الثمانينات، كنا مجموعة من الطلبة في معسكر للتدريب الجامعي. خيام بائسة وسط بادية قاحلة، وجفاف في كل شيء، والأهم هو الضجر القاتل الذي لم نفلح في دحره، لا بورق الشدة، ولا بألعابنا الساذجة المرتجلة، ولا بأحاديثنا التي سرعان ما صارت تدور حول نفسها مسببة لنا مزيدًا من الضجر. أما الكتب التي في حوزتنا فكانت كلها في السياسة، ربما لأننا اعتقدنا أن هذه هي القراءة الملائمة لجو كهذا، وأذكر أننا صمنا عن كتب السياسة لشهور طويلة بعد ذلك، كردة فعل على المزاج السيء الذي أثارته فينا كتبنا الكالحة تلك.

يتراجع النقد التطبيقي إلى أضيق الهوامش، إذ صاروا قلائل أولئك النقاد الذين يحفلون برواية أو قصة أو نص مسرحي أو شعري، ويتفرغون لتحليل النصوص وفتح مغاليقها وفك شفراتها والإضاءة على شتى جوانبها

اقترح أحدنا: "لن تنقذنا إلا كتب الأدب.. رواية، مجموعة قصصية، مجموعة شعرية.."، ثم هب هو لتنفيذ اقتراحه، وعاد بعد ساعة من البحث بين الخيام بكتاب صغير، وقال: "لم أعثر على رواية بل على كتاب نقد أدبي". كان هذا هو كتاب طرابيشي "الله في رحلة نجيب محفوظ". تقبلناه على مضض، ولكن ما هي إلا ثلاثة أيام حتى كنا قد التهمناه جميعًا بنهم استثنائي، وتصايحنا بعبارات الإعجاب، معلنين بكثير من الدهشة أن نجيب محفوظ الذي كنا قد قرأناه ليس هو هذا الذي تحدث عنه طرابيشي، وأن علينا الاعتراف بأن قراءتنا للأديب المصري كانت سطحية وساذجة.. مقسمين على العودة إلى كل رواياته، وخاصة التي تناولها الناقد في كتابه، فالآن صار لدينا رؤية جديدة، وطريقة أخرى للقراءة..

وأقسمنا أيضًا على أن نقرأ الكثير من كتب النقد الأدبي، والتي لم تكن على قائمة أولوياتنا وقتئذ، وقد بررنا بقسمنا. عدنا إلى نجيب محفوظ، كما التهمنا المزيد من كتب النقد الممتعة..

لا أعرف عن الآخرين من مجموعتي تلك، ولكن عني شخصيًا، فأنا أشعر منذ سنوات بخيبة كبيرة، ذلك أنني لم أعد أعثر على كتاب نقدي يعيد ذكرى تلك اللقية المبهجة. وإذا ما عثرت على واحد بين فترة وأخرى، أعرف أنها صدفة سعيدة ربما لن تتكرر إلا بعد وقت طويل.. طويل.