01-أغسطس-2022
نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

في المطالع الأدبية سرّ دائم، يكمن في أنه يدفع لإكمال القراءة أو التوقف عنها. وسوى خاصية الجذب ثمة جمالية خاصة للمطلع أو الافتتاحية، وقديمًا تحدّث العرب عن مطالع المعلقات وأفاضوا في ذلك، ولعلنا لا نحيد عن ذلك النهج الثقافي الراسخ في زماننا حين نتحدث عن مطالع أو افتتاحيات الروايات.

ومن بين التجارب الكثيرة، تحتفظ روايات نجيب محفوظ بافتتاحياتها القوية والناصعة، فبمقدار ما تمثّل المدخل الشيّق والعذب إلى عالمها السرديّ الخاص، تمثّل أبعادًا جماليةً وفكرية يلتقطها القارئ لحظة قراءتها، وأخرى تلتمع في الرؤوس في لحظات ما بعد إنهاء الرواية كاملة.

هنا دعوة لعالم هذه المطالع من خلال خمسة مقترحات: زقاق المدق، الجزء الأول من الثلاثية، اللص والكلاب، ملحمة الحرافيش، رحلة ابن فطومة.


1- زقاق المدق

تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يومًا في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري، أي قاهرة أعني؟ الفاطمية؟ المماليك؟ السلاطين؟ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر نفيس. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد.

ومع أن هذا الزقاق يكاد يعيش في شِبه عُزلةٍ عمَّا يُحدِّق به من مَسارِب الدنيا، إلا أنه رغم ذلك يَضجُّ بحياته الخاصة؛ حياة تتَّصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة، وتحتفظ - إلى ذلك - بقدرٍ من أسرارِ العالَم المنطوي.

2- الثلاثية: بين القصرين

عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبهٍ أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها، فتواظب على إيقاظها في دقةٍ وأمانة. وظلَّت لحظات على شك من استيقاظها، فاختلطت عليها رؤى الأحلام وهمسات الإحساس، حتى بادرها القلق الذي يلمُّ بها قبل أن تفتح جفنيها من خشية أن يكون النوم خانها، فهزَّت رأسها هزةً خفيفةً فتحت عينيها على ظلام الحجرة الدامس. لم يكن ثمة علامةٌ تستدل بها على الوقت؛ فالطريق تحت حجرتها لا ينام حتى مطلع الفجر، والأصوات المتقطعة التي تترامى إليها أول الليل من سُمار المقاهي وأصحاب الحوانيت هي التي تترامى عند منتصفه وإلى ما قُبَيل الفجر، فلا دليل تطمئن إليه إلا إحساسها الباطن - كأنه عقرب ساعة واعٍ - وما يشمل البيت من صمتٍ ينمُّ عن أن بعلها لم يطرق بابه بعد، ولم تضرب طرف عصاه على درجات سلمه.

3- اللص والكلاب

مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبارٌ خانقٌ وحرٌّ لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة.

4- الحرافيش

في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا.

5- رحلة ابن فطومة

الحياة والموت، الحلم واليقظة، محطات للروح الحائر، يقطعها مرحلة بعد مرحلة، متلقيًا من الأشياء إشارات وغمزات، متخبطًا في بحر الظلمات، متشبثًا في عناد بأمل يتجدد باسمًا في غموض. عم تبحث أيها الرحالة؟ أي العواطف يجيش بها صدرك؟ كيف تسوس غرائزك وشطحاتك؟ لم تقهقه ضاحكًا كالفرسان؟ ولم تذرف الدمع كالأطفال؟ وتشهد مسرات الأعياد الراقصة، وترى سيف الجلاد وهو يضرب الأعناق، وكل فعل جميل أو قبيح يستهل باسم الله الرحمن الرحيم.