03-أكتوبر-2016

لوحة حلاق القطط لـ إبراهام تينيرز/ بلجيكا

لطالما تهرّبتُ من إجراء عملية لاستئصال اللوزتين، فهما تنتفخان كلما استهلكتُ شيئًا باردًا، وما أعمقَ حبّي للماء البارد حتى في عزّ فورار [شهر فيفري بالأمازيغية]. إذ لازلتُ حتى اليوم، أتذكّر المراتِ التي امتدّت يدي فيها إلى أعمدة الجليد المتدلّية من القرميد في القرية، ولم يكن هناك علاج يومها للزكام وانتفاخ اللوزتين إلا فرّوج في المرق الساخن. رحم الله فراريج أمّي وتقبّل صياحَها في جنّته العالية.

مواء الحمّى

هذه المرة، تعدّى الأمرُ انتفاخَ اللوزتين إلى انفجارهما. لقد وقعت مجزرة في حلقي، تزامنت مع مشاهدتي لفيلم "أرض الموتى" لجورج إيه. روميريو، وكان "لا بدّ من عملية عاجلة للتخلّص منهما، وإلا امتدّ أثرهما إلى القلب"، قالت الطبيبة التي لا تبتسم أبدًا.

جرّبت في السابق أنواعًا مختلفة من الحمّى، لكنّ حمّى انفجار اللوزتين كانت فعلًا قطعة مهرّبة من جهنّم، ومن ثمارها المرعبة كوابيسُ تداهمني كلما غفوت.

مرّةً.. نمتُ مباشرةً بعد أن شاهدتُ صورة لصديقي الزجّال المغربي أحمد لمسيّح، كان محاطًا فيها بقطط كثيرة، هكذا هو أحمد، يُراهن دومًا على جمهور مختلف، فرأيت، فيما يرى النائم، مئاتِ القطط تغزو غرفتي. كانت تسير نحوي بريتم عسكري، وهي تموء بأصوات تبدأ خفيضة، ثم تأخذ في الارتفاع حتى أفقد قدرتي على السماع، وفي اللحظة التي هممتُ فيها برمي نفسي من الشرفة، هربًا من هذا المقام العجيب، ظهر لمسيّح وراح يقرأ زجلًا بصوته الذي لا يراهن على التصفيق أبدًا. لم يكن زجلًا من دواوينه التي أعرف، فقد كان وليدَ اللحظة، وكنتُ أتصبّب عرقًا وأنا أسمعه. قبّلني على جبهتي وغادر إلى أفق بعيد، تتبعه قططه مختلفة الألوان والأصوات.

أطفال المطر

صحوت من نومتي تلك، وكان لا بد من تسخين الماء حتى أستطيع بلعَه، وضعت الماء على النار وألقيت نظرة من الشرفة، فرأيت طفلًا مستلقيًا على ظهره وهو يستنجد بي. لم أستطع أن أنزل إليه من الطابق الخامس، فقد كان الوَهَنُ ينخر مفاصلي كلَّها، ولم أستطع أيضًا أن أغضّ الطرفَ عنه.

ضاعفتُ اللباس ونزلت. حينها أدركتُ لماذا كانت أمي تتجنّب الخروج من البيت، فالنزول من الطابق الخامس ليس سهلًا. لماذا تبني الحكومة الجزائرية عماراتٍ بلا مصاعد؟ كم كان سيكلّفها المصعد بالمقارنة مع العمارة نفسِها؟ وصلت شبيهًا بكلب مبلّل من العرق، تذكرت رواية "رائحة الكلب" لجيلالي خلّاص، فرحت أشمّني وأتجنّب أن أتقيّأ، ذلك أن رائحة البصل والخل والليمون، الناتجة عن خلطة وضعتها أمي في رأسي وصدري، تسمّى "اللبيخة"، قد عضّتني ممّا ضاعف الألم في حنجرتي المنكوبة.

هل يستطيع المريض مثلي أن يستعمل عبارة "سارعتُ الخطى"؟ كان ذلك في الخيال فقط، أما على مستوى الأرض، فما كان أشبهَني بالدودة. متى تدرك الحكومة الجزائرية أنها لا تتقدّم إلا في الخيال؟ أمّا في الواقع، فهي مريضة وبحاجةٍ إلى تجديد الخلايا؟ وصلتُ إلى الطفل الممدّد على ظهره في ساحة الحومة، فلم أجد إلا صورة رسمها الأطفال بالجبس، وقد شرع المطر في محو ملامحها قطرةً.. قطرة.

لا أدري هل رآني أحدهم، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ولا أدري إن كان سيصدّق كوني مريضًا، لأنني استدرت مثل جَدْيٍّ إلى سلّم العمارة، وَطَفِقْتُ أصعده مثل فكرة في الرأس. كان لابدّ أن أصل سريعًا إلى اللابتوب لأكتب مسرحية للأطفال طلبها مني صديقي المخرج عبد الله بهلول منذ مدّة، وكنت أتحايل عليه لافتقادي الفكرةَ، وها قد أمطرت: يرسم أطفال حقيقيون أطفالًا بالجبس، يأتي المطر ليمحوَهم، فيهربون منه ويصبحَ همُّهم الأكبرُ أن يحبسوا المطر في السماء ليعيشوا، في مقابل ارتباط عيش الأطفال الذين رسموهم بنزوله. إنها معركة البقاء.

ضحك دموي

كان الضحك من الأفعال التي لم أكن قادرًا عليها، بسبب ضغط اللوزتين، وحدث، مرّة، ما حملني على ذلك، فَطَفِقَ الدم يخرج من فمي المفتوح.

اتصل بي صديق مفرنس لا يحسن العربية، فأخبرته بأني مصاب باللوزتين، ولابد من عملية لاستئصالهما. غرق الرجل في الأسف وراح يواسيني: "لا تحزن يا صاحبي، كان الأمر سيكون مؤلمًا لو لم تنجبْ ثلاثَ بناتٍ، أنت الآن أب ويمكنك أن تعيش بلا لوزتين". اتصل مرة أخرى وكرّر الكلامَ نفسَه، فقلت له: "ما دخل اللوزتين في الإنجاب؟"، ثم فهمت أن اللوزتين في ظنه هما الخصيتان. أوه ماي غود.. ماذا لو كان الانفجار على مستوى الخصيتين؟
 
اقرأ/ي أيضًا:

من تحت الأنقاض

البلاد شجرة تفاح كبيرة