08-أبريل-2020

من أعمال ورشة نظمتها كل من آنا ألكوك ولورين مالا سيرات

يوافق اليوم 21 نيسان/أبريل 2018. اجتمع قرابة الخمسة والعشرين شخصًا من إعاقات مختلفة في القاعة الكبرى للنزل. كنتُ أرافق هادية رئيسة الجمعيّة التونسية للإعاقة. كانت تحتاج إلى مُرَافِقَةٍ خلال إشرافها على الجلسة بسبب فقدانها للبصر. طلب منّا المدرّب أن نعرّف بأنفسنا. أشعرُ بالامتنان إلى هذه المرأة، وصرتُ أحضر معها بعض الاجتماعات والنشاطات الخاصّة بجمعيّتها. حجبتُ عنها ماضيَّ، ووثقت فيَّ كفاية لتجعلني مرافقتها. تعقد الجمعيّة -بدعم من الاتّحاد الأوروبيّ- سلسلة من الاجتماعات الخاصّة بالأشخاص من ذوي الإعاقة في كامل أنحاء الجمهوريّة. دعتْ خبراء بالعمل الجمعيّاتي والتنظّم لتعليم المشاركين. "نريد من الأشخاص ذوي الإعاقة أن يكونوا فاعلين أكثر ويدافعوا عن حقوقهم"، هكذا أخبرتني هادية.

قسّمنا المدرّب إلى ثلاثة فرق وطلب منّا أن نختار اسمًا لكلّ فريق. اتّفق أفراد المجموعة التي انضممتُ إليها أن تكون "كرامة" اسمًا لفريقنا. اختار الفريقان الآخران اسميْ "حريّة" و"إرادة". مدّ فريقنا بثلاثين ورقة بيضاء صغيرة، ومدّ قلميْ رصاص غير مبريّ لـ"حريّة" ومبراتيْن لـ"إرادة".

- هنالك فريق واحد رابح في هذه اللّعبة. يجب على كلّ فريق أن يكتب الاسم الذي اختاره، فوق أكبر عدد ممكن من الأوراق البيضاء وبقلم رصاص مبريّ. كلّ ذلك خلال عشر دقائق فقط. أُذَكّرُ: هنالك فريق رابح فقط، وسيحصل على جائزة!

بدأنا التحدّي. كانت أوراقنا على الطاولة خاصّتنا، وكنّا نناقش سبيلنا للفوز. بعد لحظات -وفي غفلة منّا- سرق منّا عضو في فريق الـ"إرادة" اثنتي عشرة ورقة بيضاء. كان شابًّا أحدبَ قصيرًا، أضحكني أثناء جريه متعرّجًا نحو طاولته. سرق عضوٌ آخر من فريق "إرادة" قلم رصاص من فريق "حريّة". رفض فريق الـ"إرادة" منح مبراتيْه. اقتسمنا نحن أعضاء الـ"كرامة" وفريق الـ"حريّة" الأوراق المتبقيّة. قسّمنا قلم الرصاص إلى اثنين، وبَرَيْنَاهُ بسكّين سويسريّ كان لدى أحد أعضاء الفريق.

انقضى الوقت، طلب منّا المدرّب أن نتوقّف. رأيته يبتسمُ طوال عراكنا، كنتُ أسترق بعض نظرات إليه أثناء اللّعب.

-أهنئكم على تجاوبكم مع اللّعبة، وأعلمكم أنّكم كلّكم رابحون!

أحصى الأوراق المكتوبة: 12 إرادة/ 9 حريّة/ 9 كرامة.

- سألغي أوراق فريق الـ"إرادة" لأنّه سرق قلم الرصاص. هذا يعتبر غشًّا وعدم احترام لأخلاق اللّعب! يحتاج قلم الرصاص إلى المبراة للكتابة على الورقة البيضاء. لو اتّفقتم واتّحدتم واستعملتم أدواتكم كلّها في تناغم، لكتبتم على نفس الورقة أسماء فرقكم مجتمعة ولكنتم كلّكم رابحين. جعلتكم الأنانيّة خاسرين، وغابت عن بعضكم النزاهة. هل تعرفون حكاية الأحدب والأعمى؟

أجبنا جميعا بالنفي.

- ... أغار اللّصوص على منزل يسكنه أحدب وأعمى، حمل الأعمى الأحدبَ على ظهره وهربا. استدلّ الكفيف بالأحدب للنجاة من بطش اللّصوص، لو فكّر كلّ واحد منهما بنفسه، لما نجحا في الهروب وإنقاذ نفسيْهما. أحدّثكم هنا عن التعاون والعمل ضمن فريق، مبدآن أساسيّان للتعاون وحلّ المشاكل المشتركة لأصحاب الإعاقة.

استحسنتُ حقيقة اللّعبة ومعانيها، كنتُ معجبةً بالمدرّب، كان شابًّا في الثلاثين من عمره وبجسد رياضيّ، ظهر ذلك من وراء القميص الأبيض الذي يلبسه. كان مثيرًا. تواصلتْ الجلسة بعد ذلك. تدخّلت هادية لتقديم أهداف جمعيّتها وبرامجها، وتواصل عمل المدرّب حول التنظّم وتقنيات العمل ضمن فريق. تهدف الجمعيّة ببرنامجها هذا، إلى تدريب ممثّلين بالولايات التونسيّة بغرض تنفيذ برامج لها خاصّة بالتوعية حول حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع. 

في خضمّ النّقاش، رفعت إيمان يدها لطلب الكلمة. كان المدرّب قد طلب من كلّ مشارك وضع ورقة بيضاء مطويّة أمامه، عليها اسمه لتسهيل التواصل.

- من فضلكم أريدُ أن أقول شيئًا... (قالت إيمان)

- تفضّلي... إيمان.

سمحَ لها المدرّب بالكلام ، وانتبه كلّ الحاضرين إليها. أمالت هادية رأسها قليلًا إلى أعلى لتسمع كلام المتدخّلة.

كانت إيمان تحمل إعاقة عضويّة، وتستعمل كرسيًّا متحرّكًا بنظام كهربائيّ للحركة. ارتدت جبّة سوداء فوقها كنزة صوفيّة بنفس اللّون وحجاب أصفر. كانت بشرتها بيضاء وانحنى رأسها قليلًا. وضعتْ يدًا فوق يد على الطاولة التّي كانت تحت مستوى صدرها بقليل.

أتتْ إيمان متأخّرة إلى الحلقة، رغم كونها من سكّان مدينة المهديّة أين تقام الجلسة.

- أريد من الجمعيّة المساعدة لتصليح الكراسي الخاصّة بذوي الإعاقة العضويّة. تعذّبتُ آخر مرّة كيْ أجد تقنيّا مختصّا يصلح لي كرسيِّي... وجدتُ واحدا بتونس العاصمة، ودفعتُ له مائتي  دينار... بعد أسبوع عاود الكرسيّ نفس العطل مرّة أخرى وانعدمتْ حركتي... طلب مائة وخمسين أخرى حتّى يصلح العطل نهائيًّا... الكرسيّ عينايَ، التي أرى بهما... يمنحني الكرسيّ المتحرّك الضوء.

شهقتْ إيمان بالبكاء. كان جسد إيمان كرويًّا ومجمّعًا في كتلة واحدة، بفعل حَثْلٍ ألمّ بعضلاتها منذ الولادة أعاقها عن الحركة. وتزايد بمرور الزّمن وتفاقم بفعل السمنة. كان مرضها وراثيًّا، هذا ما صرّحت به عند التعريف بنفسها.

سكتنا جميعًا، وتابعتْ كلامها: 

- هل يمكن أن أحكي لكم حكاية؟

سمح لها المدرّب بالكلام، قائلًا:

- تفضّلي، كلّنا آذان صاغية.

- تمنّيتُ أن أكون كاتبة لأكتب معاناتي، لكن لم أدخل المدرسة ولم يتسنّ لي التعلّم. تمنّيتُ أن أكتب أشياء كثيرة، بغزارة شعر الرأس. تحصّلتُ على كرسيّ متحرّك بعد سبع سنوات من ولادتي. كنت متروكة مثل قطعة أثاث في غرفة رطبة لا تصلها الشمس. تمنّيتُ أن أرى الشمس وأنا قابعة في مكاني مدّة سبع سنوات... أتعرف معنى كلّ ما أقوله لك، أن تبقى كلّ تلك السنوات بلا شمس؟ هل تعرفون ماذا فعلتُ كي يمسّ نور الشّمس جلدتي؟

كان جميع من في القاعة واجمًا، وواصلت إيمان الكلام.

- استعملتُ يد مكنسة. نعم، يد مكنسة لصيد الشمس! ربطتُ عليها مرآة بسلك معدنيٍّ لأعكسَ بها ضوء الشمس الآتي من الشبّاك الصغير للغرفة على بشرتي. كنت أنتشي عند لمس الضوء المنعكس على جلدتي. كنت بعمر ستّ سنوات، مثّلت رؤية الشمس أمنيتي الوحيدة بعد إحساسي بالوجود في هذه الدنيا. قضى هوسي بتذوّق أشعّة الشمس ببشرتي على حلمي بالمشي... أتذكّر أوّل يوم خرجتُ فيه إلى النّور نهارًا. لم أكن فَرِحَةً بالكرسيّ الجديد، بل بلقائي مع أشعّة الشّمس. كنت أتلوّى مثل ديك مذبوح على الكرسيّ، عندما أراد منّي أبواي الرجوع إلى المنزل في آخر النهار. لن أنسى ذلك اليوم في حياتي...

بكيتُ. عجزتُ عن التحكّم بدموعي في تلك اللّحظة ولمحتُ الدمع نازلًا من عينيْ هادية. استدار المدرّب نحو باب القاعة مخفيًا شيئًا ما. كان الجميع  بنفس حالة التأثر.

بقيتُ واجمةً وحككتُ بشرة يدي بهدوء. بدتْ وكأنّ معاني كلمات إيمان حرقتني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حظر تجول

وحيدة في غرفة أتأمل الغبار