28-يوليو-2020

شقاقات جديدة يمر بها الاتحاد الأوروبي (Press Pool)

نهاية الأسبوع الماضي، صوّت البرلمان الأوروبي بالإجماع على خطة الإنعاش الاقتصادي، التي انتهى قادته إلى الاتفاق عليها، بعدَ الكساد الذي يعانيه اقتصاد الاتحاد جراء جائحة كورونا، مخرجين الاتفاق للعلن من مخاض عسير، ومفاوضات طالت لأربعة أيام وأربع ليالي احتضنتها بروكسل. خصصت خطة الإنعاش هذه، بغلافها المالي الذي بلغ 1.8 تريليون يورو، دعمًا مباشرًا بقيمة 750 مليار يورو للاقتصاد الأوروبي، ويتوزع هذا المبلغ بين 390 مليار دولار من المساعدات مخصصة للبلدان الأكثر تضررًا من الجائحة، فيما تم تقديم 360 مليار يورو المتبقية على شكل قروض.

مهما هلل شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبي، بهذا " الاتفاق التاريخي" على حد قوله، فهي لم تكن النهاية السعيدة التي تأملها الأوروبيون، أكثر منها  بعثرة لكل الأوراق السابقة 

لكن ومهما هلل شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبي، بهذا " الاتفاق التاريخي" على حد قوله، فهي لم تكن النهاية السعيدة التي تأملها الأوروبيون، أكثر منها  بعثرة لكل الأوراق السابقة وانبلاج شقاقات جديدة  تسود الموقف؛ المحور الألماني الفرنسي لم يعد المستحكم بالقرار الأوروبي أمام صعود تحالف دول تسمي نفسها بـ "المقتصدين"، فيما أعلنت إيطاليا عن نسختها من حزب البريكسيت، فيما يبدو أن الميزانية الأوروبية تتوعد بصراع أكثر شراسة بين مؤسسات الاتحاد. كانت تلك السمات الأساسية التي تداولتها تقارير للمشهد المعقد لمرحلة ما بعد كورونا داخل القارة العجوز. 

اقرأ/ي أيضًا: كورونا من منظور أوروبي.. أسئلة الوحدة والتفكك

"المقتصدون" الأربعة ضدّ محور باريس/ برلين

كانت أبرز السجالات التي أثارتها مفاوضات خطة الإنعاش الاقتصادي، تدور حول كيفية توزيع حزمة المساعدة وقدرها. فالتصور الذي دفعت به باريس أولًا، ثم دعمته ألمانيا ثانيًا، يقضي بتوزيع غلاف الـ 750 مليار يورو المخصص للخطة، بمنح 500 مليار منها على شكل مساعدات، والـ 250 مليار المتبقية كقروض. تصور كهذَا وجد ترحيبًا من دول جنوب القارة، وهي الأكثرُ تضررًا من الجائحة، مثلَ إسبانيا وإيطاليا.

بالمقابل أثار الأمر حفيظة دول الشمال، التي عارضت عبر تشكيل كتلة مفاوضة موحدة، رافضة هذا التوزيع بحجة دفاعها عن "تحديث الميزانية الأوروبية" ورفضها "إعادة توزيع عبء الاستدانة بشكل تشاركي بين الدول الأوروبية"، من أجل "جاهزية أكبر لأي أزمة قادمة". هذه الدول التي سمت نفسها بـ "المقتصدين"، والتي تضم كلّ من هولندا، السويد، الدنمارك والنمسا، مثلت العقبة المنيعة أمام الطرح الألماني الفرنسي. هذا ما أوضحته مخرجات الاتفاق، والتي أرغمت فيه فرنسا على التنازل عن تصورها بتخفيض نسبة المساعدات ورفع نسبة الديون.

الدور الذي يلعبه "المقتصدون" الأربعة، يقول مراقبون، أشبه بالدور الذي لعبته ألمانيا وفرنسا خلال أزمة الديون اليونانية، وما يؤكد ذلك التصلب الذي طبع مواقف "المقتصدين" إزاء تصورهم. هذا التصور الذي اصطدم بالمركز الأوروبي، محور فرنسا/ ألمانيا، دافعًا إياه لتقديم تنازلات، مزيحًا مركز الثقل السياسي نحو الشمال أكثر، معتمدين في ذلك على قوة هذه الدول الاقتصادية ومساهمتها في ميزانية الاتحاد.

هل كان الاتفاق انتصارًا لليمين الشعبوي؟

دار الصراع المحتدم الذي عرفته مجريات قمة بروكسل، بين " المقتصدين" من جهة ومن جهة أخرى محور فرنسا/ ألمانيا، في مساحة ملغومة، برز التهديد فيها من ناحية تقوية شبح الشعبوية الذي تغرق فيه دول القارة واحدة بعد أخرى. فحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد أقر بدوره قائلَا:" إن الخطر الذي نواجهه هو أن يصب شقاقنا هذا  في مصلحة الشعبويين".

بطبيعة الحال، كان الشعبويون ممثلين في حكومتي هنغاريا وبولندا، على الجانب الآخر من الاتفاق والمعارض له بشراسة، لدرجة تلويح فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الهنغاري، بـ"ورقة الفيتو" إن لم يستجب الاتفاق إلى مطالبه بأن يكون توزيع المساعدات "عادلًا وأكثر مرونة"، مناديًا بوجوب احترام الديموقراطية التنظيمية للاتحاد. هذا التحرك روجت له الصحافة الهنغارية الموالية لأوربان كانتصارٍ ساحق لرئيس الحكومة، محتفية معه به، وهو الذي قال عقب توصل القمة إلى الاتفاق أنه "لم نحقق فقط حزمة جيدة من المساعدات، بل دافعنا على شرف بلادنا، موضحين أنه لا يحق لأي أحد التشكيك في دفاعنا عن الديموقراطية". مضيفًا أن "بولندا وهنغاريا صارعا لأن لا يقرر أحد مصيرَ بلدانهم بدلًا عنهم"، خاتمًا حديثه بأنه "لم نربح الحرب، لكننا انتصرنا في معركة مهمة".

الحديث عن الديمقراطية واحترام القانون الذي تسلح به أوربان خلال المفاوضات، في وقت كانت فيه المواجهة التي خاضها "المقتصدون" محتدمة لانتزاع الريادة، ومائلة ناحية التصور الفرنسي الألماني،  يقول محللون، إنه إشارة على فهم حكومات أوروبا الوسطى اليمينية الشعبوية شروط اللعبة الأوروبية، ودليل على وعيهم بضرورة تشكيل حلف قوي بدورهم، يجمع كلًا من هنغاريا، بولندا، التشيك وسلوفاكيا. حلف قوي لن يتم إلا بتحالفات براغماتية، عند نقاط التقاء المصالح، مع ميركل وماكرون. وبالمقابل يعود محور ألمانيا/ فرنسا، يسدي خدمات لصالح الشعبويين، على غرار الاتفاق الأخير. 

إطاليكسيت.. هل ستغادرُ إيطاليا الاتحاد؟

في إيطاليا، لم يرق الاتفاق لليمينَ الشعبوي، وهو الأكثر تشككا من الاتحاد الأوروبي بين أحزاب تياره السياسي. مع أنها حصّلت النسبة الأكبر من الدعم، والتي بلغت 209 مليار يورو، 81 مليار منها مساعدات مباشرة و128 مليار قروض. ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة الإيطالي، علق على ذلك الاتفاق قائلًا بأنه "رضوخ لإيطاليا تحت رحمة المقتصدين الأربعة"، رضوخ يشبهه وزير الداخلية الإيطالية الأسبق باستسلام حكومة سيريزا اليونانية أمام شروط الاتحاد الأوروبي. محتجًا على الشروط الملزمة له، واصفًا إياها بأنها "مجبولة بدم ودموع" الإيطاليين.

هذا الشعور المعادي لأوروبا داخلَ إيطاليا، والذي تصب عليه ردود الفعل إزاء الاتفاق الأخير الزيت، هو ما يحاولُ السيناتور جيانلويجي باراغوني جمعه في حزبه الجديد، إيطاليكسيت. الحزب الذي اقتبس اسمه من التجربة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي، وحدد له الهدف نفسه وحزب البريكسيت البريطاني. " لن نستمر في تقبل ابتزاز الدول التي تمس كرامة إيطاليا" يقول باراغوني، مؤكدًا أن أزمة كورونا أكدت بالنسبة لإيطاليا ضرورة استعجال خروجها من الاتحاد، وتملّك سيادتها الكاملة بالتحرر من "الاتحاد الجرماني"،  في دلالة على سيطرة ألمانيا على الاتحاد القاري.

"الاتحاد الأوروبي الآن أضعف!" يقول المحلل الاقتصادي، شون ريتشارد، في تصريح له لموقع Express البريطاني. مضيفًا بأن "انسحاب روما، إن تمّ، قد يسبب تفكك الاتحاد بشكل نهائي". فيما يذكرُ ذات المقال بأن السؤال الغالب في البلاد هو إذا ما سنغادرُ الاتحاد بعد مرور الأزمة؟ تجمع استطلاعات رأي أن 67 في المئة من الإيطاليين لا يرون منفعة في بقائهم داخل الكتلة الأوروبية.

معركة الميزانية بين مؤسسات الاتحاد

كلما حلّت أزمة، يطرح بين دول الاتحاد الأوروبي إشكال انعدام اندماج ضريبي. فيما لا يحدد الاتفاق الضريبي الأوروبي الكتلة الجبائية لكل دولة إلا بشكلٍ ظاهري: تحديد نسبة التضخم والعجز، وتحديد حجم الديون الداخلية والخارجية المسموح بها كحد أقصى للدول الموقعة عليه. بالتالي فإن هذه التفاوتات الضريبية تكرس التفاوتات الاقتصادية، بين الدول التي تستقطب رساميل كبيرة، مثل هولندا وألمانيا، وبين دولٍ أخرى غير قادرة على منافستها اقتصاديا كإيطاليا، اليونان، إسبانيا والبرتغال.

اقرأ/ي أيضًا: اتحاد أوروبي بلا أوروبيين.. كورونا والقوميّة المتخيّلة

ما عرفته المفاوضات الأخيرة حول خطة إنعاش الاقتصاد الأوروبي بدوره دار على منوال هذه التفاوتات، وما دفع به "المقتصدون" الأربعة يصب في خانة الحفاظ عليها، أي عدم منح مساعدات دون مقابل للدول المتضررة، بل حزمة ديون. فيما الاتفاق الذي أقره المجلس، وعلى التنازلات المقدمة من الجانبين، يحسب انتصارًا للتحالف الهولندي، بتخفيض نسبة المساعدات ورفع نسبة الديون المقترحة فرنسيًا وألمانيًا.

الموافقة الهشة للبرلمان الأوروبي على الاتفاق مشوبة بالخطر، تشير تقارير، أي خطر اندلاع معركة بين المؤسسات الأوروبية، محورها ميزانية السنوات الخمس القادمة

الموافقة الهشة للبرلمان الأوروبي على الاتفاق مشوبة بالخطر، تشير تقارير، أي خطر اندلاع معركة بين المؤسسات الأوروبية، محورها ميزانية السنوات الخمس القادمة. إذ يرفض البرلمان 1074 مليار يورو كميزنية أقرها الاتفاق، معتبرًا إياها هزيلة، لكن ليس له صلاحية تعديلها. بالمقابل فإن المجلس الأوروبي، والذي حرمه البريكسيت من 70 مليار يورو التي كانت تساهم بريطانيا بها في الميزانية، هو الآن وجهًا لوجه مع جهازه التشريعي إذا ما تشبث بمخرجات اتفاقه الأول.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 "فيروس كورونا".. لهذه الأسباب انتشر الوباء في إيطاليا