11-فبراير-2020

الكاتبة شيخة حليوى

تسترجع القصة القصيرة موقعها تدريجيًا في المشهد الأدبي، بعد أن فقدت مكانتها لعقود لصالح الرواية، فلم يعد يتحمس الناشرون لتقديمها، وتراجعت المنابر التي كانت تعيش فيها ما قبل الكتب كالمجلات والصحف والملاحق الثقافية، وحتى البرامج الإذاعية المتخصصة، وصار المشهد كله يتحدث عن الرواية وزمنها وجوائزها التي تتناسل كل يوم. 

غير أنه في السنوات الأخيرة بدأ المشهد الأدبي العالمي يعرف عودة قوية لهذا الجنس، ونرجع ذلك لإطلاق المنصات والمواقع الثقافية وظهور بعض الجوائز المهمة التي تعنى بهذا الجنس، مما شجع الناشرين على فتح أبواب مكاتبهم من جديد لكتاب القصة. وكانت الكاتبة الكندية أليس مونرو قد فاجأت العالم سنة 2013 بحصولها على جائزة نوبل بمنجزها في القصة القصيرة.

يعتبر كتاب شيخة حليوى "الطلبية C345" نموذجًا للكتابة الجديدة في فلسطين

يبدو أن هذه العودة إلى القصة القصيرة ولدت أيضًا أصواتًا جديدة أرادت أن تقطع مع النماذج القديمة للكتابة القصصية والتيمات المستهلكة ومنها ما يمكن أن نسميه بالمخيال القصصي، وينسحب هذا على المخيال العربي بمحاولة تجديد الأسئلة والأدوات حتى في الرواية والشعر والفنون الأخرى، وهذا ما حدث مع الأدب الفلسطيني لتبدأ في الظهور موجة من الكتاب المتمردين على الموروث الأدبي المثقل بالاحالات السياسية المباشرة، ويمكن أن نمثل لهؤلاء بمازن معروف وشيخة حليوى في القصة وريم غنايم في الشعر وسليم البيك في الرواية... وكان هاجسهم كيف يمكن أن نتخلى عن الأماكن المرجعية والكلمات المفاتيح للأدب الفلسطيني الرسمي والصورة الأيقونية لشخصية الفلسطيني ويبقى النص فلسطينيا؟ أو كيف نكتب أدبا فلسطينيا جديدا ونبني بيوتا سردية وحكايات فلسطينية دون الاستعانة بحجارة بيوت الأجداد وكيف يمكن أن نفتح تلك البيوت دون مفاتيح ثقيلة صدئة؟ 

اقرأ/ي أيضًا: "الطلبية C345" لشيخة حليوى تحصد جائزة الملتقى للقصة القصيرة

يعتبر كتاب شيخة حليوى "الطلبية C345" )منشورات المتوسط، 2018(، والفائز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية، نموذجًا لهذه الكتابة الجديدة في فلسطين والعالم العربي، كانت الكاتبة قد بدأتها منذ أعمالها الأولى: "النوافذ كتب رديئة"، و"خارج الفصول"، و"تعلمت الطيران"، و"سيدات العتمة".. وهي كتابة مكثفة متخففة من كل ثرثرة ترتفع بالقصة القصيرة العربية إلى مستوى عالمي، لكأن كاتبتها من فرط دقتها تكتبها بإبرة. وربما هي كذلك فالإبرة أداة من أدوات الطرز الدقيق لثوب المرأة الفلسطينية؛ تلك المرأة التي أنهكها التخييل الأدبي والفني الذكوري في صور أيقونية ثابتة بذريعة تمجيدها.

المرأة الفلسطينية خارج الكليشي

ظلت شيخة حليوى تكتب الواقع الفلسطيني والمرأة الفلسطينية تحديدًا، بعيدًا عن الكليشيهات التي حصرت فيها منذ غسان كنفاني واميل حبيبي. فالمرأة مع شيخة لا معابر تقف أمامها ولا جثة شهيد في حجرها ولا حجارة تلقيها على محتل. بل تكتب امرأة فلسطينية أخرى تجلس في بيتها تواجه مصيرها. قبالة العدو الحميم "الذكر الخشبي" والموت الفردي والعذرية المغتصبة والعنف الحميم. امرأة فلسطينية إنسانية تستعيد في الأدب أسئلة أي امرأة في الكون وتفضح تفاصيل ميتات أخرى، غير تلك التي تحدث عبر الرصاص وحده. امرأة منتهكة جسديًا من مجتمع ذكوري كبير أفقدها إدراكها بأنوثتها دفعها لتتنازل عنها بذريعة أن هناك قضية أهم هي الاحتلال، وأن هناك عدوًا أهم هو المحتل، وأن عليها أن تعيش دور القربان الأنثوي للذكر المسؤول عن مقاومة الهم الأكبر.

الأشياء الأخيرة والحيوانات السائبة 

تجترح شيخة في مجموعتها هذه أمكنة وفضاءات جديدة تؤثث بها وفيها قصصها وتحشر فيها الحكايات. فالأمكنة عند شيخة هي الفضاءات المهملة أو هي اللامكان نفسه. تلك التجويفات والشقوق والثقوب التي تحدثها المسامير في الجدران. ولا أحد معنيّ بها وهي مهملة من الذكر المهيمن على كل الفضاءات الكبيرة والمعلنة لذلك يتجاهلها حتى إذا طلب منه التخلص منها. تستحوذ عليها شيخة وتحول وظائفها ففي قصة "الثقب الأبيض" كان ثقب مسمار على الحائط مهربًا للشخصية من الأيادي الثقيلة التي تهددها. هناك في التجويف الصغير الأبيض يظهر نور ما.

أبطال قصص شيخة حليوى شخصيات معطوبة طوال الوقت تبحث عن أعضائها

هناك في المكان غير المرئي بسهولة تفر الشخصية وابنتها لترميم ذاتها من العنف الذي لمحت إليه الراوية دون أن تعلنه وكأنها تخشى أن يكشفها. هكذا تتحول الراوية إلى ما يشبه البقة لتعيش في ثقب صغير قبل أن يهاجمها مسمار آخر ويثقب رأسها قصة مضادة تحاول أن تصنع عالمها الخاص جدًا والمختلف. وكذلك الأمر مع الخزانة في قصة "حياة من خشب". تلك الخزانة التي بيعت بها الصبية التي ظلت صورة زفافها تطاردها لأنها لحظة توقيع عقد بيعها. حيث تتذكر كيف كان المصور الفوتوغراقي يوجهها بصعوبة لتنظر نحو عريسها دون طائل. 

اقرأ/ي أيضًا: شيخة حليوى.. تحرير الباطن من همومه

أما أبطال شيخة فهم شخصيات معطوبة طوال الوقت تبحث عن أعضائها، فهي تارة بلا عيون، وتارة بلا أطراف ولا عقول، وطورًا أشباح ميتة تخرج من المقابر تزور بيوتها وتذكر قتلتها بجرائمهم، أو مريضة فاقدة للذاكرة يطوح بها الزهايمر لتعيش غربة لا تذكر حتى أسماء أقرب المقربين منها أو هي حيوانات سائبة تنزع من بعضها الشظايا التي أصابتها من أثر قصف. إنها شخصيات في معظمها غير آدمية، شخصيات معدومة الملامح مستقلة من الكوابيس في سرد حلمي مركب. أحلام معقدة عن الخراب الكلي البشري نتيجة عنف مركب ومتعدد. أياد ضخمة قاسية لرجل الخشب أو صاروخ مدمر يخيط جدران الحي، تجعل من الشخصيات تختبيء في الثقوب البيضاء المستحيلة، أو تحمل الجدران معها لتحميها وهي تتنقل لكنها أبدًا لم تنجح في أن تمشي ككلاب منتصرة في الشوارع. كانت دائمًا كلابًا منهزمة كما يقول الراوي في قصة "فسحة للنباح".

عالم الأشياء

تؤثث شيخة قصصها القصيرة بالأشياء. تلك الأشياء الرجيمة التي أكلت ذوات الشخصيات. فنحن في النهاية لسنا إلا نتاج أشياء اقتحمتنا واستحوذت علينا. إما عصا أب في الخزانة تؤرخ لتاريخ العنف الذي يصل في قصة "زيارة ليلية"، إلى قتل الطفل صاحب تلك الروح المترددة على البيت العائلي أو خزانة زوج اشترى بها طفلة زوجة برتبة أمة، أو هي شظايا صاروخ يخترق حتى أجسام الكلاب السائبة. وأطراف اصطناعية مبتورة تبحث عن روح راقصة تحلم بالخطوة الأولى ما بعد الموت، أو حقائب جلدية تجرنا في المحطات والملاجئ حيث أودعنا أحلامنا الصغيرة: أطفال وأفكار.

ما يبرز من وراء نصوص شيخة حليوى هو مشرط التحرير، فهذه النصوص تكشف عبر جملتها القصيرة وحركة أحداثها الجهد الكبير في المحو بعد الكتابة والتحبير. جهد لا يمكن إدراكه إلا لمن خبر هذا العمل الكبير على المسودات. فكتابة القصة عند شيخة ممارسة تحتاج شجاعة وجرأة كما تقول رواية قصة "قصة حلم". جرأة المحو.

قصص شيخة حليوى قصص سوريالية لا في عوالمها فقط، بل في عملية تلقيها نفسها

هكذا نكون مع نصوصها أمام الكتابة باعتبارها صنعة دقيقة، تلك الصنعة التي تظهر في تلك الكثافة المؤلمة وما تتركه من أثر في المتلقي وهي بذلك القصر. فالشحنات الدرامية تباغتك في الصفحة الثانية من كل قصة. هنا ندرك أن شيخة تستعير من الشعر كثافته لتكتب قصة قصيرة قاتلة في جدتها لا تحتاج فيها إلى مسمار شيخوف بل إلى الثقب الذي تركه في الحائط. لترمينا بكرات الثلج محشوة بكل مسامير العالم نتلقاها بخفة لنتفاجأ بها وقد شجت صدورنا ورؤوسنا. لم تكن شيخة تقطف القطن بل كانت تجمع خراطيش الموتى لتعيد تركيب المشط للرشاش.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| ابتسام عازم: يافا ولدت في داخلي

قصص شيخة حليوى قصص سوريالية لا في عوالمها فقط، بل في عملية تلقيها نفسها، لأنها تضع القارئ مع كل نص في مرمى القذيفة عاريًا وقد امتلأ بطنه ورأسه بنفايات القص والحكي القديم. لكي يفهم عليه أن يحتضن القذيفة وواحتضانها يعني تشظيه بوصفه قارئًا قديمًا محشوًا بتبن ودهون القص القديم. وهي بذلك تنتج قارئًا جديدًا في إمكانه أن يتحمل هذا القص الذي يفشل الانتظارات من ناحية والعوالم والتقنيات، وحتى الأسئلة التي تأخذ أحيانًا أبعادًا فلسفية ووجودية غامضة. وغموضها جزء من شعريتها، إذ تتنكر لكل يقين وتدفع بالبرنامج السردي كله نحو التأويل الفردي لذات جديدة حرة. فهل كانت تراها تكتب بالإبرة أم كانت بسورياليتها تخرب عيني القارئ بذات الإبرة ليقرأ بطريقة أخرى؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار جماعي | الشعر في زمن الثورة.. هل للدم في فم الشاعر طعم الاضطهاد؟

لماذا يكتب الأدباء بأسماء مستعارة؟