13-أبريل-2018

فواز حداد

فواز حدّاد روائي سوريّ من مواليد 1947، بدأ مسيرته الأدبيّة بكتابة القصّة القصيرة والرواية والسينما والمسرح، قبل أن يتفرّغ لكتابة الرواية، ويُصدر 13 رواية هي: "موزاييك 39" و"تياترو 1949" و"صورة الروائي" و"الولد الجاهل" و"الضغينة والهوى" و"مرسال الغرام" و"مشهد عابر" و"المترجم الخائن" و"عزف منفرد على البيانو" و"جنود الله" و"خطوط النار" و"السوريون الأعداء" و"الشاعر وجامع الهوامش".

هنا حوار معه.


  • لنعد إلى البدايات، ما الذي جاء بك إلى عالم الرواية؟ ولماذا الرواية تحديدًا؟

جرّبت في سن مبكرة أكثر من نوع أدبي، عدا الشعر. كتبت القصة القصيرة والرواية والمسرح، وجربت أيضًا السينما. في ذلك الوقت، كاد أن يكون المسرح أو السينما خياري النهائي؛ جائحة المسرح القادمة من مصر، والسينما من الغرب، استولت على عقول جيلي، ورسمت تطلعاتهم وطموحاتهم، لكن في لحظة الخيار الحقيقية، وكنت في سبيلي إلى دراسة السينما، اخترت الرواية، كان ميلي نحوها طاغيًا، كما لدي أسبابي الأخرى العملية، فبينما المسرحي والسينمائي، بحاجة إلى تمويل، أو التعامل مع الدولة، لا يحتاج الروائي إلّا إلى قلم وورقة. في سوريا ليس سوى مؤسسة السينما، قد تمنحك عملًا أو تركنك على الرف. إضافة إلى أنّني حسب طبيعتي لا أنسجم مع العمل الجماعي.

فواز حداد: بينما المسرحي والسينمائي، بحاجة إلى تمويل، أو التعامل مع الدولة، لا يحتاج الروائي إلّا إلى قلم وورقة

وإذا كنت قد بدأت محاولاتي بالرواية والقصة القصيرة، فحسب ظني كانت القصة تمرينات على الكتابة. لم يطل الوقت عندما قصرت قدراتي عنها، كان من الصعوبة ضبطها عن التوسع في المكان والامتداد في الزمان. بعدما كتبت مجموعة قصص تحت عنوان "الرسالة الأخيرة" لم أستطع متابعة تجربتي القصصية، أي فكرة كانت تخطر لي، لم يعد بوسعي التحكم بمساحتها، كانت تأخذ الشكل الروائي. ما عجل بالنسبة إلي التمسك بخياري الروائي.

اقرأ/ي أيضًا:سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني

رغم محاولاتي الروائية، لم أطمئن إلى ما كنت أكتبه. شعرت بنفسي مقيدًا، كانت الرقابة مسلّطة على الأدب بدعاوى تقدمية واشتراكية، لذلك كل ما كتبته في تلك الفترة تخلصت منه، لقناعتي أنّها لا تستحق النشر، كنت الرقيب عليها، فلم أبذل الوقت لتنقيح ما أنجزته.  

أعتقد بأنّني كنت محظوظًا، توجهي نحو الرواية كان انسجامًا مع طموحي. كانت هوسي، قرأت كميات كثيرة لروائيين عرب، وتقريبًا كل ما ترجم إلى العربية في ذلك الوقت، وربما صنعت هذه القراءات أو أسهمت بتشكيل نظرتي الروائية إلى الحياة والعالم، كانت تصوراتي حول البشر روائية بحتة، أي حادث صغير أو كبير، تتشكل من جرائه في ذهني رواية حوله.

كانت الرواية قد أصبحت محور حياتي، وربما حياتي كلها.

  • بعد إصدارك 13 عملًا روائيًا، كيف تنظر اليوم إلى تجربتك الإبداعية؟ ما الثابت فيها وما الذي تغيَّر؟

التكلم عن الثابت والمتغير تبسيط لتجربة أي روائي، تجربتي كانت معقدة، وحصرها في الثابت والمتغير، عملية تحنيط. إنّها كما تجارب الروائيين عامة، يجب التمعن فيها لإدراكها، وربما اكتشافها، ما زال الروائي يقف على عتبة أعماله مثله مثل أي قارئ، فالعمل الروائي ينفصل عن صاحبه رغم الوشائج القوية التي تربطه به، وفي إعادة النظر فيها بعد سنوات، يتعرّف الروائي على نفسه، ويتعرف أيضًا على عالمه. حاليًا، أعتقد من الخطأ تبويبها، أو تصنيفها، فهي لم تكتمل، ما زال بوسعي العمل على المزيد. في الوقت نفسه لن أصادر النقد، هذا عمله الذي يبقى غريبًا عنّي في اختزال التجارب الروائية.

فواز حداد: أية جائزة تمنح الكاتب فترة محدودة من الأضواء، ومن الخطر التعيش على أوهامها

قد أتعرض لها يومًا ما، فيما لو أسعفني الوقت. حاليًا لا أرغب في النظر إليها من هذا المنظار إلّا إذا شئت أن أسبغ عليها ما ليس فيها. فلنقل إنّها بحاجة إلى تأمل. وإذا شئت أن أشير إليها فهي تجربة في أن أعكس العالم الذي عشته، أن أضعه على الورق، وأمارس عليه عملية تشريح. هذا لا يكفي، إذ السؤال ما الذي فعلته أيضًا؟

اقرأ/ي أيضًا: أحمد شافعي: ما كنتُ لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة!

  • هل تعوّل على تجاربك الشخصية في بناء روايتك عادةً؟ وما الذي من الممكن أن تضيفه التجارب الشخصية للرواية؟

الروائي عادة، يستعين بتجاربه الشخصية، وربما كان يكتب دائمًا عن نفسه في أقنعتها المتعدّدة، الحقيقية منها والمستعارة، وشخصياته الواقعية والمتخيلة، لكنها لا تكفي، ولا يكتفي الروائي بها. التجارب الحياتية هي المعين الرئيسي له، تشكّل مخزونه الأكبر، ويمتح منها بالوعي وباللاوعي كتاباته واستيهماته، وهذا لا يعني الاستخفاف بتجاربه الذهنية التي هي حصيلة ثقافته ومعارفه وجدالاته مع نفسه والآخرين، إضافة إلى ما يبذله من جهد ومثابرة في ملاحقة شيء يتلمّحه، ليس واضحًا، وربما ليس له وجود، وحده يعتقد به، إذا لم يتعثّر به، فعليه اختلاقه. الروائي أحيانًا يسير في الظلام، وعليه اختراع بصيص النور الذي سيمشي على هديه. ما يعني أنّ تجاربنا الشخصية مهما كانت، تضيء لنا، من خلال ما نبذله من جهد في الرواية معالمها وأعماقها وما يحف بها. ما أريد قوله، لا رواية من دون تجربة حياتية أو ذهنية، والا من أين نستمد إحساساتنا ومشاعرنا ورؤيتنا للعالم؟  

  • هناك مقولات تفيد بأنَّ جائزة البوكر أخرجتك من عزلتك وأحاطتك بالأضواء، وفي الوقت نفسه أصبحت أسيرًا للعنة الشهرة هذه ولمتطلباتها، مبتعدًا عن أسلوب ما قبل الجائزة في الكتابة. ما رأيك؟

من الخطأ التعويل على الجوائز خاصة في عالمنا العربي، فهي غير موثوقة، وإذا كانت تحيط الكاتب بالأضواء، فهي أضواء مفتعلة ومضللة. قبل البوكر وبعدها حافظت على نمط حياتي، لم تضف إليّ شيئًا. ربما عرّفت بي لفترة قصيرة، وأصبح لدي بعض القرّاء من البلدان العربية، لكنني على ثقة من أنّ وجودي في عالم الرواية مدين لاستمراريتي في الكتابة، ثمّة قرّاء يتابعونني عن قناعة بأنّهم لا يضيعون وقتهم بقراءة رواياتي.

أية جائزة تمنح الكاتب فترة محدودة من الأضواء، ومن الخطر التعيش على أوهامها، وإلّا كان ضررها أكثر بكثير من نفعها، والأكثر سخافة أن يعتقد الكاتب أنّها حقيقية. لا لم أكن أسيرًا لها. كما أنّ المعروف عنّي ابتعادي عن هذه الاحتفالات، لا أبحث عن الشهرة، ولن أرهق نفسي باللهاث وراءها. أبحث عما هو أكبر منها، شيء حقيقي أكثر دوامًا. لكن هناك من يفترض على سبيل انتقادي، أنّني أصبت بلعنة الشهرة. وهو نوع من الانتقاد الشائع والتافه، كان عليهم انتقادي على شيء أكثر جدية وواقعية.

عمومًا، هذه الانتقادات راجت بعد كتابتي رواية "السوريون الأعداء"، عقب اتهامي بالطائفية، وبدا كأنني أخطأت بكتابتها، أي كان من الأفضل عدم التعرض إلى جرائم النظام، وهو خيار لم يكن بطوعي، ولا بإرادتي، كان قضية ضمير. توقعت انتقاداتهم، وظننت أنّهم لن يتجرأوا على إعلانها، وإذا كانوا قد فعلوها فلأنّهم أدركوا أنّهم معنيون مثل غيرهم بهذه الجرائم. كانت اتهاماتهم محاولة تشهير بالدرجة الأولى، فلم يجدوا سوى الشهرة، مع أنّني لم أكن مشهورًا، من قبل ومن بعد.

  • أثارت روايتك "السوريون الأعداء" بعد صدورها جدلًا واسعًا. وحظيت أيضًا بنقدٍ لاذع واتّهامات عدّة. هل تعتقد أنّ المواقف السياسية شكّلت دافعًا لتلك الانتقادات؟ وأنَّ عملية النقد تلك كانت سياسيةً أكثر من كونها نقدًا أدبيًا؟

الموضوع الذي تعرّضت له الرواية كان من المسكوت عنه روائيًا، لكن بعد المظاهرات والانتفاضة والثورة، لم يعد من الأمانة السكوت عنه، بات هناك قتل عن عمد وضحايا وقصف وتدمير وتهديد بحرق سورية، التي دخلت باحتجاجاتها في صراع مع القمع الأبدي، وأصبحت الأزمة السورية تضج في العالم كله. كان البقاء معتصمين بالصمت إغفالًا للضحايا وإنكارًا للحرية. نحن أصحاب هذه المأساة التي امتدت أكثر من أربعين عامًا من العسف، وتحوّلت بعد المظاهرات إلى مجازر وقتل على الهوية.

فواز حداد: روايتي "السوريون الأعداء" لم تكن خروجًا عن الخط الذي انتهجته في روايات ما قبل الثورة

روايتي "السوريون الأعداء" لم تكن خروجًا عن الخط الذي انتهجته في روايات ما قبل الثورة، وليس ادعاء أنّ القسم الأعظم من كتبي، كان ممنوعًا في سورية. مشروعي نفسه ما زال كما هو، وكل رواية تنحو إلى استكماله، وأنا أعرف أنّه لن يكتمل لصلته القوية بالحياة التي نعيشها.

اقرأ/ي أيضًا: حجي جابر: أنا منحاز لإرتريا التي نتمنى

من جانب آخر. من الأجدر من الرواية في الكشف عن بانوراما الموت والخراب واسعة النطاق التي كانت الدولة الشمولية مسؤولة عنها؟ الرواية مضطرة لأنّ تأخذ على عاتقها مثل هذا العبء، لماذا يكتب الآخرون عن بلدانهم، ونحن نعتصم بعفة الرواية عن مخالطة السياسة، لا سيما ونحن نكتب عن البشر ومعاناتهم، ألا يجوز الكتابة عن الشر النابع من إجرام السلطة؟ ثم متى جرى تحريم الكتابة عن جرائم الأنظمة الدكتاتورية؟

حكت الرواية عما واجهه السوريون طوال ما يزيد عن أربعة عقود، لم تكن هناك رواية تماثلها إلا من وجهة نظر النظام البعثي، فكان من الضرورة أن نكتب روايتنا بعد نشوب الثورة، ما يدحض رواية النظام، ونجيب عن سؤال، لماذا كانت الثورة؟ وكان من الطبيعي التعرض إلى المخابرات والسجون، وحصار حماة واستباحتها بالقتل والتدمير والنهب. وهذا ما استفز الموالين داخل سورية، فالنظام مقدّس، ومثله تشريح مرحلة الدولة البعثية.

الموالون الذين كتبوا عن الحرب الحالية، أغفلوا الثورة وأسبابها وإذا تجرأوا على الإتيان على ذكرها، فالفاعل غامض، مجرد تجاوزات من بعض أجهزة الأمن. أما الفاعل الحقيقي وأصل الشر، فمعتم عليه، إلى أن وجدوا في "داعش" وأمثاله فريسة جيدة لتحميلهم مأساة السوريين كاملة، وتغاضوا كلية عن نصيب النظام فيها، وهو الأصل.

  • في هذه الرواية هناك عودة إلى حماة سنة 1982. ألا تزال أحداث حماة قابلة لأن تروى أدبيًا؟ وبعد مرور كل هذه السنوات؟

أحداث حماة، وأحداث الثورة، أصبحت مفتوحة للأدب، لم تعد مغلقة في وجهه، وسوف يكتب عنهما الكثير. الحرب العالمية الأولى والثانية ما زال الأدب والسينما ينهلان منهما حتى اليوم، المقتلة السورية بدأت عامها الثامن، وتكاد تغطي زمن حربين عالميتين، ضحاياها بالملايين ما بين شهيد ونازح ومهجر ولاجئ، كل واحد منهم لديه روايته وروايات آخرين. هل ستبقى حبيسة الصدور؟ إنّها مأساة القرن الواحد والعشرين. وأخبارها منتشرة في العالم، فلماذا التحفظ عليها والادعاء أن الزمن طواها؟

  • كيف تنظر اليوم إلى ما بات يُسمّى بـ"أدب الثورة"؟ وهل تعتقد أنَّ الروائيين السوريين واكبوا في أعمالهم الروائيّة الحدث الراهن وأحاطوا به كما ينبغي؟

ما زلنا في البدايات، مثل هكذا حدث هائل الحجم امتد سنوات طويلة، وعمره الفعلي نصف قرن. يضاف إليه هذه الحرب على عشرات الجبهات داخل البلد، لم تكن سوى حرب ضد الشعب، وما حل على الأرض السورية من جماعات متشددة قتلت وذبحت ومثلت بالأجساد، وكانت تأسلمًا مضادًا للإسلام، وتحوّل البلد إلى ساحة لتصفية النزاعات الإقليمية والدولية. ترى ألا تستدعى التساؤلات عن نظام استدرج دولًا لتقتل شعبه، والتساؤل عن سورية معاصرة ومنكوبة، وما فعلته في حياة أجيال من السوريين؟ إنها مأساة معمرة. هذا الحدث سيدخل في نسيج الأدب والسينما والمسلسلات التلفزيونية، ويعكس عذابات ملايين السوريين، وتتعدى أدب الثورة إلى أدب صناعة الحياة من جديد.

فواز حداد: الثورة لم تحول الرواية عن طريقها، صحيح أنّها تأثرت بمجريات الواقع، لكن مثلما هو سيال، كذلك الرواية

  • لنفترض أنَّ الثورة لم تحدث، في هذه الحالة، ما الطريق الذي كانت ستسلكه الرواية السورية؟

الثورة لم تحول الرواية عن طريقها، صحيح أنّها تأثرت بمجريات الواقع، لكن مثلما هو سيال، كذلك الرواية. وغالبا ما يتقاطعان آنيًا أو بعد حين. الرواية احتوت الثورة وحملتها على عاتقها وأصبحت من مهماتها الحالية والمستقبلية، لقد دخلت في سيرورتها، وباتت جزءًا من ضمير الرواية السورية، لا يمكن محوها من الذاكرة.

اقرأ/ي أيضًا: منصورة عز الدين: ليست الرواية فقط أن تحكي حكاية

 دائما كان الأدب يجد مادّته في الحياة والإنسان، الثورة من إفرازات الحياة والواقع والظلم. والرواية ستعبر عن كل ما أثارته، وخلّفته، وصنعته، وأطلقته.

  • ما الذي أضافته الحرب إلى مشروعك الروائي؟ وما الذي انتزعته منه أيضًا؟

في الحقيقة أضافت الثورة والحرب الكثير إلى عالمي، وأعتقد أنّ مشروعي الروائي أصبح أكثر زخمًا ومجاراة للواقع، ينحو إلي التكامل المرحلي، كأنّني وضعت نقطة البداية الافتراضية في روايتي الأولى "موزاييك ٣٩" ومع رواياتي الأخيرة أضع نقطة النهاية المؤقتة، الأشبه بانفجار يصعب تحديد الاتجاه الذي سيليه، فالوضع الحالي تتشارك فيه عدة احتلالات للأرض السورية. ترى إلى متى سترزح سورية والرواية تحت وطأته؟

أما ما الذي انتزعته من مسيرتي الروائية، فهي لم تعد تمضي في طريق مسدود تلمع في نهايته المظلمة بصيص شمعة، بل أصبحت مفتوحة على عدة احتمالات. وأكثر ما أخشاه أن تستعاد تلك المتاهة العبثية من الاستبداد والفساد وادعاءات الخلود. 

  • ذهبت في روايتك الأخيرة "الشاعر وجامع الهوامش" إلى منطقة أغفلتها جلّ الروايات التي تناولت الثورة السورية وأحداثها، إمّا عمدًا أو سهوًا. وهي المجتمع العلوي. هل من الممكن أن تفسّر لنا لماذا؟

من المبالغة الادعاء أّنني تناولت المجتمع العلوي، وإذا كنت قد تناولته فعلى أنّه جزء لا يتجزأ من المجتمع السوري بهدف إيجاد بيئة حاضنة لمناقشة الدين، تتمتع ببعض الحرية، كان من الممكن أن تكون في مكان آخر، لكن ظروف الحرب والضرورة الروائية جعلتها في ضيعة أطلقت عليها اسم "مغربال". يُطرح فيها الخلاف على الدين ومحاولة إيجاد آخر بديل في أجواء مفتوحة، سرعان ما أصبح محل نزاع، فيتنبه النظام إليه ويحاول السيطرة عليه بتجنيد مثقف، يعمل على تجيير الدين وقولبته لحسابات النظام في الحرب القائمة والمستقبل، وهو اتجاه أرى أنّه لن تغفل عنه الأنظمة، وقد تمتد الفكرة نفسها إلى الغرب، فالدين بات يشكل عائقاً بتأويلاته المتعددة، وقابليته للانزياح نحو الاعتدال أو التشدد، نحو الرحمة أو قطع الرؤوس، وأيضًا نحو مباركة الأنظمة الشمولية.

فواز حداد: أضافت الثورة والحرب الكثير إلى عالمي، وأعتقد أنّ مشروعي الروائي أصبح أكثر زخمًا ومجاراة للواقع

نحن نعيش في عالم واحد، ومثلما الإجماع الغربي كان في الواقع ضد الربيع العربي، كذلك الأديان هناك إجماع في العالم على الهيمنة عليها، باتت تشكل خطرًا غير محسوب من قبل، بعد الاعتقاد بأنّه تم تجاوزها. لكن منذ بداية القرن الحالي بات يعمل حسابًا لها، والاعتقاد الراجح أنّ العلمانية لن تستطيع فصل الدين عن السياسة، إلا بعقد جديد، أما ماذا يكون هذا العقد، وعلى أي نحو؟ يبدو أنّ الأبحاث والدراسات حوله على قدم وساق على أمل تحويل الأديان إلى مناهج تقدم خدماتها للحكومات والطغيان والفساد. لا ننسى أنّ لدى الأنظمة العربية مشايخ وفقهاء ومثقفين ومفسرين ومؤولين يعملون في هذا المجال.

اقرأ/ي أيضًا: ياسر خنجر: تنازع مكانين في هويتي يزيدها اكتمالًا

  • تُرجمت أعمالك إلى عدّة لغاتٍ عالمية، كانت آخرها الألمانية. برأيك، كيف يتعامل القارئ الأوربّي مع الأعمال العربية؟ ولا سيما تلك القادمة من بلدان ترزح تحت وطأة الموت والحرب؟

لم يترجم لي عمل كامل إلّا إلى الألمانية فقط، وهو "جنود الله". ترجم من دون وساطات وعلاقات عامة، أو أي اعتبار سوى أهميته بالنسبة إليهم، وفي جانب معين منه وهو الإرهاب، بينما كان موضوعه أوسع، فهو مطروح من وجهة نظر تهمنا نحن أكثر مما تهمهم، وإن حصد اهتمامًا في مراجعاتهم له، لا يقل عما أثاره في العربية. بإثارته مشكلة عالقة في الغرب حول الجهاديين. عمومًا مشاكلنا الجوهرية لا تهمهم، فرواية "السوريون الأعداء" بعدما تحمسوا لترجمتها تدخلت جهات أخطبوطية موالية للنظام، واعترضت بأنّ الرواية سوف تثير الخلافات بين اللاجئين السوريين. وهكذا استمعوا لخصوم الثورة ولم تترجم، مع أنّه لو ترجمت لفهم القارئ الغربي، لماذا قامت الثورة في سورية، وهو ما يحاول الموالون ومعهم هؤلاء الذين يدعون المعارضة، وهم فصيل منه، ألا يطلع الغرب على حقيقة الثورة وضرورتها.

  • قلت بأنَّك لن تكتب حكايتك الشخصية يومًا ما، لأنّها تفتقر إلى أحداث وحكاياتٍ مبهرة. هل يحتاج المرء حقًا لأحداث مبهرة ومأساوية ليكتب سيرته الذاتية؟

لقد عشنا عصرًا مضطربًا، وربما استثنائيًا بعد الاستقلال وحتى الآن؛ سلسلة من الانقلابات توقفت مع عهد الوحدة، استعادت زخمها بعد الانفصال، واختتمت بالحركة التصحيحية، ليبدأ عهد استقرار، ترسخ بالقمع والسجون، ارتكبت فيه جميع أنواع الجرائم وأساليب الفساد والنهب... لم يعد هناك مجال لحكاياتنا الشخصية، بعدما انطمست في الخوف والصمت. إذا خيل لأحد كتابة سيرته الذاتية، فلن تكون سوى هذه الحكاية التي تجمع السوريين، لكنه لن يستطيع روايتها، إلّا إذا كان انتحاريًا أو هاجر إلى بلد وكتبها هناك بحيث لا يطاله القمع.

مشاركة الأدب الإيجابية بالكتابة، كانت بالمجمل خالية مما يدعى مقارعة الطغيان، كما أنّ أولئك الذين أشهروا احتجاجاتهم، كان رصاص القنص بانتظارهم، ريثما تحركت الدبابات والطائرات والمدافع. المثقفون لم يغامروا، ولم يسمح لهم بالمغامرة، سرعان ما تلقفتهم السجون، وقضوا فيه زهرة شبابهم. بشكل عام، منعوا من ممارسة أي نوع من النضال. وبشكل محدود، كانت المعارضة سلمية.

إذا كتبنا اليوم، فعن السيرة الذاتية لمأساة شعبنا، وإن لم نعان قدرًا ذي بال بالقياس إلى الآخرين على الإطلاق، الذين فقدوا أولادهم وبيوتهم وحياتهم.  

فواز حداد: أنا في سبيلي إلى كتابة الرواية الثالثة عن سورية في سنوات الحرب، وبذلك اختتم روايتي عن الظلام الذي عاشته البلد طوال ما يقارب نصف قرن

أما سيرة الكاتب الذاتية، فهي سيرة جوانية عن عالم حافل بالذكريات والأفكار والتحولات والمتغيرات، عالم هو جزء منه. نعم ما عشناه كان حافلًا بالقهر، لم يصبنا منه إلّا القليل، وكان كافيًا لنصاب بصدمة العمر. ربما كتبت يوما ما عنه وعني.

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف.. تدمر أكبر من مجرد آثار

  • أخيرًا، ما جديدك؟

أنا في سبيلي إلى كتابة الرواية الثالثة عن سورية في سنوات الحرب، وبذلك اختتم روايتي عن الظلام الذي عاشته البلد طوال ما يقارب نصف قرن، وتشريح الدولة الشمولية الرثة التي أنتجتها. اعتقد أنّه يصح أن يكرس روائي بضع سنوات من حياته ليكتب عما عشناه من رعب. كانت حياة بائسة ولد خلالها أجيال من السوريين وماتوا، ولم يعيشوا حياة كريمة، ومن دون الإحساس بإنسانيتهم.

إنّها عن العمر الضائع، لئلا نكرر نحن السوريين مأساتنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نبيل الملحم: الكتابة فعل أقرب إلى الاستحمام

علوية صبح.. عزلة في منطقة الاشتباك