01-سبتمبر-2020

ملف: دروس غرامشي.. استعادة مستمرة

خلال الحرب، العالمية الأولى، كان أنطونيو غرامشي ( 1891-1937) محررًا في جريدة الحزب الاشتراكي «آڤانتي-إلى الامام». تميّزت كتاباته بالدعوة إلى التنظيمات العمالية القاعدية على غرار «مندوبي المعامل»، في التجربة البريطانية، في مقابل البيروقراطية النقابية وإصلاحية الحزب الاشتراكي. تعززت دعوته بقيام مجالس السوفييت الروسية العام 1917 والتأييد الواسع الذي حازت عليه في الأوساط العمالية الايطالية. أصدر مع زميله پالميرو تولياتي أسبوعية «النظام الجديد» Ordino Nuevo، لسان حال الجناح اليساري للحزب. وما لبث الصحفي غرامشي الذي كان يعلّم العمال ويدعوهم للتنظيم والوحدة، أن انتقل إلى مشاركتهم نضالاتهم بل إالمشاركة في قيادتها خلال انتفاضة «العامَين الأحمرين 1920-1921 إلى جانب القائد الأناركي إنريكو مالاتستا. انطلقت الحركة من إضراب لثلاثين ألفًا من عمال تورينو وانتشرت في إيطاليا الإضرابات وحركات احتلال العمال للمصانع وتسييرها ذاتيًا وظهور فرق «الحرس الأحمر» العمالية المسلحة.

مهمة المثقف العضوي في رؤية غرامشي  تبرز في بلورة نظرة شاملة للحياة والعالم للطبقة الصاعدة في صراعها من أجل الهيمنة والوصول إلى السلطة

لم تتحول الحركة إلى إضراب عام، وما لبثت أن تقلّصت أمام القمع، وحملات التسريح الجماعية التي لجأ لها أرباب العمل، والغرق في نزاعات مسلحة مع الحزب الفاشي، الذي تسلّم رئيسه بينيتو موسوليني الحكم خلال عام من ذلك. 

اقرأ/ي أيضًا: أنطونيو غرامشي والعالم العربيّ.. لقاء من ترتيب الهزائم والخيبات

خلال الحراك، أسهم غرامشي في تأسيس حزب شيوعي من الطراز اللينيني الذي انتخبه قائدًا له وأمضى القائد الشيوعي العام 1922 في روسيا حيث تزوج من عازفة الكمان جوليا شوشت وولد له ولدان، ونال دعم لينين لفكرته إقامة تحالف يساري في وجه السلطة الفاشية يناضل من أجل عودة الديمقراطية. خاض الحزب الشيوعي الإيطالي الانتخابات النيابية العام 1924 وانتخب غرامشي  نائبًا في البرلمان. ردت السلطة الفاشية على سياسة الشيوعيين الجديدة بحملة قمع اعتقلت فيها معظم قيادات الحزب إلى أن اعتقل غرامشي نفسه في نهاية العام 1926.

خلال 11 سنة في السجن، سوف ينتج عقل أنطونيو غرامشي - الذي أراد المدّعي العام الفاشي وقفه عن العمل خلال 20 عامًا، واحدة من أغنى النظريات الاجتماعية والسياسية وأكثرها إلهامًا وتحفيزًا على التفكير والإبداع في القرن العشرين. 

إذ طلب مني أن أكتب شهادتي عن فكر أنطونيو غرامشي. هذه هي بكثير من الإيجاز:

1-استنطاق التاريخ: المسألة الوطنية-القومية

يشكل كتاب غرامشي «عن الوحدة القومية الايطالية» نموذجًا منهجيًا نادرًا لتفكير ماركسي في المسألتين الوطنية والقومية لا يقيم التعارض بين الوطني-القومي والطبقي بل يعتمد التحليل التاريخي والطبقي لتتبع مسارات وعوامل الترابط والتمفصل والتأثير المتبادل بينهما. والأهم أنه لم ينسق إلى إقامة التعارض بين الوطني-القومي والأممي.،بل اعتبر الثاني امتدادًا للأول. 

في بحثه هذا، يكتشف غرامشي عدم التطابق الضروري بين الطبقة الاقتصادية والطبقة السياسية. تستعير البرجوازية، في حقبة صعودها خصوصًا، عناصر من علاقات إنتاج وعلاقات اجتماعية وقوى اجتماعية وأفرقاء سياسيين، سابقة على الرأسمالية لتلعب أدوارها في تمثيل الرأسمالية وتوفير الإطارات لحكمها ولسلطتها ولإدارتها. 

فمملكة بييدمونت هي التي قادت مسار التوحيد القومي وجذبت واستقطبت ووحدت نوى برجوازية متفرّقة جغرافيًا، ولكنها ذات مصلحة في قيام السوق القومية والدولة القومية. بذلك وفرت بييدمونت لتلك المهمّة التاريخية أبرز عناصر القوة والتنظيم التي تملكها دولة، أي القوات المسلحة وأجهزة الحكم والإدارة. بعبارة أخرى،  لعبت تلك المملكة دور الحزب بالنسبة للطبقة البرجوازية الصاعدة. ويذكّر غرامشي بظاهرة مشابهة في الثورة الفرنسية الكبرى 1789 حيث شكل اليعاقبة فريقًا سياسيًا ينتمي إلى الطبقات المتوسطة، فرضَ نفَسه على البرجوازية، وصاغ لها مشروعها المجتمعي الشامل بما يتجاوز مصالحها الاقتصادية-الحِرَفية المباشرة ودفعَها للذهاب في تحقيقه إلى أبعد مما ترغب بـ«رفسها على قفاها»، على حد تعبيره. 

وهنا موقع مفهوم الحزب في فكره. يجمع الوعي والإرادة. يتولى القيادة الفكرية («المثقف الجمعي») والتنظيم. وقد تتولى صحيفة ما تمثيل مصالحًا طبقية أو قطاعية (جريدة «الماتينو» - «النهار» - التي مثّلت المصالح الجنوبية ضد المصالح الشمالية).

2-الدولة/المجتمع المدني؛ السيطرة/الهيمنة

 ثنائية الدولة/المجتمع المدني، أو المجتمع السياسي/المجتمع المدني، مفهوم مركزي في فكر غرامشي. يعرّف المجتمع المدني على أنه «مجموع المؤسسات التي عادة ما تسمّي مؤسسات خاصة، أي العائلة والمدرسة والكنيسة وما يسمّيه «العلاقات الاقتصادية»، أي القطاع الخاص. ويعرّف الدولة بأنها شبكة من النشاطات العملية والنظرية لا تكتفي الطبقة الحاكمة بواسطتها بتبرير سيطرتها والمحافظة عليها فقط وإنما تعمل أيضا على كسب الموافقة النشطة من المحكومين. وتشكل هذه الأخيرة «الخنادق الخلفية» للدولة، بالمقارنة مع «خنادقها الأمامية» المكونة من أدوات السيطرة العسكرية والأمنية والقانونية. على أن التمييز بين النطاقين – المجتمع المدني/المجتمع السياسي - تمييز منهجي وليس عضويًا. فكلاهما مندمج، في «الدولة المندمجة» التي لا تمارس نشاطات سياسية فقط بل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية أيضًا.

يرى غرامشي أن النضال لكسب الهيمنة الثقافية داخل المجتمع المدني ليس بديلًا عن النضال من أجل استلام السلطة ولا هو يعادل تلك العملية

تمارس الدولة السيطرة أو القسر بواسطة الأجهزة العسكرية والأمنية، وبالقوانين أيضًا. ولا يجوز الاستهانة بالقوانين بما هي «القوة الصامتة» في عملية القسر. أكتب في وقت يكتشف فيه كثير من اللبنانيين، ومن المشاركين في انتفاضة 17 تشرين، أهمية تلك القوة، في غيابها – غياب قانون محاربة الاحتكار؛ وقانون «تضارب المصالح» الضروري لمكافحة الفساد مثلًا– كما في حضورها في مبدأي الاقتصاد الحر والملكية الفردية المكرّسين في الدستور والقوانين. وقد استخدمتهما الأوليغارشية الحاكمة، ومثقفيها" - من خبراء، ومستشارين، وإعلاميين، الخ. - على أوسع نطاق للدفاع عن امتيازات أصحاب المال والسلطة. فباسم الاقتصاد الحر، دافع هؤلاء عن "حق" أصحاب المصارف وكبار المودعين بتحويل أموالهم إلى الخارج، وباسم الملكية الفردية يحارَب مطلب «قص الشعر» لأموال أصحاب المصارف وكبار المودعين، وباسم مبدأ المساواة بين اللبنانيين ترفض الضريبة على الثروة أو الضريبة التصاعدية على الدخل، الخ.

اقرأ/ي أيضًا: تعويم كتلة غرامشي بمفردات التحالف السياسي

الواسطة الثانية هي الهيمنة، haegemonia، أي ممارسة النفوذ الثقافي، أو القيادة، من خلال منظومة أفكار تشكل خلفية السيطرة الطبقية. وبواسطتها يتحول فكر الطبقة المسيطرة إلى رأي عام أو «حسّ مشترك» يؤمّن طواعية واسعة من المحكومين للسيطرة الطبقية. وجدير بالذكر أن غرامشي أخذ المفهوم عن لينين ووسّعه. 

يدعو غرامشي الطبقة الطامحة إلى السلطة – وهي عنده الطبقة العاملة وحلفائها - إلى أن تمارس هي أيضا الهيمنة الثقافية، قبل استيلائها على سلطة – بأن تبلور نظرتها لميزة الحياة والعالم، أي فلسفتها، وأن تخوض الصراع ضد الهيمنة الثقافية داخل المجتمع المدني بتوليد ثقافة مضادة وبديلة. وهو يذكّرها بأن الحفاظ على مواقعها، بعد استلام السلطة، يستلزم الاستمرار في ممارستها دور القيادة، والنفوذ الثقافي، إلى جانب ممارستها القسر.

على أن النضال لكسب الهيمنة الثقافية داخل المجتمع المدني ليس بديلًا عن النضال من أجل استلام السلطة ولا هو يعادل تلك العملية. ولم يؤثر غرامشي واسطة على أخرى. يتعلّق الأمر عنده بلحظتين مختلفتين من لحظات الصراع يميّزهما بالتعبير العسكري: «حرب المواقع»، وهي الصراع داخل المجتمع المدني وبناء المواقع فيه؛ مقابل «حرب الحركة/المناورة» أي المجابهة المباشرة والسعي للاستيلاء على السلطة. يعتمد كل الأمر على توازن القوى بين قوى الثورة وقوة الدولة. وكما ورد أعلاه، دعا غرامشي إلى اعتماد أسلوب «حرب المواقع»، العام 1922، وتعبيرها آنذاك النضال البرلماني،  كإجراء «دفاعي»، في وجه صعود الفاشية ومن أجل الأخذ بعين الاعتبار قاعدتها الشعبية. ولكننا لن نجد لديه ما يدعو إلى الاعتقاد بأن «حرب المواقع» بديل دائم عن «حرب الحركة/المناورة». ولا هو توهّم بإمكان إجبار سلطة  طبقية على الانسحاب من خطوطها الأمامية إلى خطوطها الخلفية. والحال أن العكس هو ما يحصل عادة عندما تحتدم  الصراعات الاجتماعية والسياسية. 

غرامشي داعية ثورة على  النظام الرأسمالي للانتقال إلى مجتمع اشتراكي. من خلال خوض الصراع الطبقي بأوجهه المختلفة، بما فيها الثقافية والسياسية. والثورات في تعريفه حركات شعبية تسعى للتحويل الجذري في السلطة والمجتمع. لكن حصيلة ذلك السعي تعتمد على القوى التي تقوم بها وعلى توازنات القوى التي تنتجها وعلى أهداف عملية التغيير واتجاهاتها. ومن منوعاتها «الثورة السلبية» التي بها يصف النهضة القومية الإيطالية بما هي عملية تحويل تمّت دون مشاركة جماهيرية فاعلة؛ و«الثورة-الردّة»، التي تسمّى عربيًا «ثورة مضادة»، أكانت حركات دفاع بالقوة عن نظام أمر واقع قائم، أو حركات ارتداد عن النظام، بالسعي للعودة إلى نظام سابق عليه، وقد يكون نظامًا افتراضيًا ينتمي إلى  مرحلة تاريخية منقضية، كما في مشروع استعادة الخلافة الإسلامية مثلًا.

ومن مساهمات غرامشي في نظرية الثورة تمييّزُه بين اللحظة السياسية واللحظة العسكرية. فلكل منهما منطقه وأدواته وأساليبه وعقباته وعواقبه، والانتقال من الواحدة إلى الـخرى انتقال نوعي استراتيجي وليس مجرد انتقال ظرفي أو تكتيكي. لكنه يشدّد، في المقابل، على أهمية إخضاع العسكري دومًا للسياسي والقيادة العسكرية للقيادة السياسية.

3-الفوارق الاجتماعية غير الطبقية

تأسيسًا على تجاوز غرامشي الاختزالية الطبقية، يتعرّض بثلاثة أنماط من التناقضات والفوارق الاقتصادية-الاجتماعية: تفاوت النمو بين المناطق الجغرافية؛ التناقض بين المدن والأرياف؛ ثنائية العمل الذهني والعمل اليدوي. وهي ثنائيات أبرز ما يترتّب عليها من مترتبات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية الامتيازات من جهة والحرمانات من جهة أخرى.

 يتعاطى غرامشي مع المثقفين كفئة بتعيين وظيفتهم الاجتماعية بما هي أدوار الضبط والربط والتأويل، إذا جاز التعبير، والتمثيل، القائمة كلها على العمل الذهني مقابل العمل اليدوي

-التفاوت المناطقي: يولي غرامشي أهمية خاصة لتفاوت النمو بين شطري إيطاليا: شمال مصنّع وجنوب زراعي. وهذا الأخير موضوع إنتاج غزير لدى غرامشي. على أنه ليا يؤجل حل «المسألة الجنوبية» إلى ما بعد انتصار الاشتراكية بل يرى إلى التنمية المناطقية المتوازنة وحل المسألة الفلاحية بما هما الحل الوطني الذي يعزز وحدة إيطاليا. وفي السياق ذاته، رأى إلى أن التفاوت يستوجب التحالف بين الطبقة العاملة الصناعية الشمالية والفلاحين والوسطى والمثقفين الجنوبيين، بما هو الشرط الحيوي لقيام قوة تغيير قادرة على تجاوز الرأسمالية.

اقرأ/ي أيضًا: شذرات غرامشي: لكي نتمكن من اللقاء

وغني عن القول أن هذا الاستدراك الجغرافي غير قابل للاستخدام من أجل إحلال التفاوت الجغرافي محل التراتب الطبقي كما هو حاصل في عديد من أدبيات المنظمات الاقتصادية والتنموية الدولية التي تُحِلّ قياس الفقر محل قياس التفاوت في توزيع المداخيل والثروات، وتنسب حالة الفقر إلى التفاوت الجغرافي-المناطقي.

- المدينة والريف: هذا التفاوت ليس متطابقًا مع التفاوت المناطقي. على أنه نقطة الانطلاق المنهجية الضرورية عند غرامشي لدراسة القوى الدافعة الأساسية للتاريخ الإيطالي. وقد كتب صفحات لامعة في الدراسة العيانية للطبقات والشرائح والقوى الاجتماعية وتعبيراتها السياسية والثقافية لدى طرفي تلك العلاقة: التمييز في المدن الإيطالية بين مدن صناعية ومدن خدمية من جهة، والتركيز على المسألة الفلاحية بصفتها المحور والمحك في عملية التوحيد القومي من جهة أخرى. ومما كشفه تحايل الطبقات الحاكمة على حق الفلاحين في الأرض بإطلاق الحلم بتمليكهم الأرض في المستعمرات - ليبيا والحبشة وإرتريا، وسواها – وبتحويل جموع فلاحية إلى مستوطنين للسيطرة على سكان المستعمرات أو إلى وقود للحروب الاستعمارية.

-المثقفون: يتعاطى غرامشي مع المثقفين كفئة بتعيين وظيفتهم الاجتماعية بما هي أدوار الضبط والربط والتأويل، إذا جاز التعبير، والتمثيل، القائمة كلها على العمل الذهني مقابل العمل اليدوي. ولا يقتصر الأمر عنده على التمييز بين «مثقفين تقليديين» مرتبطين بالطبقات القديمة و«مثقفين عضويين» أكثر تعبيرًا عن الطبقات الصاعدة (أكانت البرجوازية أو الطبقة العاملة). ومهمة هؤلاء الأخيرين بلورة نظرة شاملة للحياة والعالم لتلك الطبقة في صراعها من أجل الهيمنة والوصول إلى السلطة. إلى هذا، يحلل غرامشي تفاوت الأدوار التي يؤديها المثقفون تجاه الطبقات الأساسية (المحامي تجاه الفلاحين في الجنوب، والكادر الصناعي تجاه العمال في الشمال). وليس يتغاضى، أخيرًا، عن حقيقة الامتياز الطبقي-الاجتماعي-القيمي الذي يحمله العمل الذهني على حساب العمل اليدوي.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقاومة العزل القسري.. يوليوس فوتشيك عندما صفق للموت من أجل الحياة

3 كتب عن المثقف.. الأدوار والمواقع