01-سبتمبر-2020

ملف: دروس غرامشي.. استعادة مستمرة

تحضر موضوعات التحالف من عدمه وإشكالية بناء استراتيجياته وتكتيكات المواجهة مع السلطة، أي سلطة، إلى واجهة المشهد بشكل تدفعه الضرورة عندما تكون البنية المستهدفة ذات خصوم كثر وبتباينات كثيرة. أي عندما تكون السلطة القائمة ضد صالح قطاع واسع ومتنوع من القوى الاجتماعية. ضمن سياق مثل هذا النقاش الأولي، أو بالقرب منه، كثيرًا ما تحضر، عربيًا وغير عربيًا، استعارة أنطونيو غرامشي و"استعادته" بخصوص "الكتلة التاريخية". يأتي مثل هذا الحضور أحيانًا بدقة وإفادة، وفي أحيان أخرى كثيرة بتلفيقات أيدولوجية وتسويات خطابية سياسية وتجاوزات تحليلية يصلح الادعاء بضررها أكثر من أية إفادة مدعاة من وراءها. فهل يمكن القول، أو استعارة الاستعارة الغرامشية بشأن الكتلة التاريخية عند عتبة كل تحالف سياسي اجتماعي ضد السلطة؟. وهل  يكفي العداء مع السلطة، أو شكل من أشكالها، أرضية مشتركة لحديث "الكتلة التاريخية"؟.

ليست الكتلة التاريخية النافعة في الفهم الغرامشي وبعض ما تطور استنادًا عليه مجرد جبهة معارضة سياسية، ولا معارضة بالضرورة، بقدر ما هي إرساء أسس توليدية لبناء اجتماعي ثقافي جديد

لم يسقط المفهوم لدى غرامشي ولا عليه من السماء دون مقدمات. حاله بذلك حال سلة مفاهيمية واسعة اجترحها وعمل على خلق ألفة وتداع بخصوصها ضمن خصوصية موضوعاته إيطاليًا وعماليًا، ليأتي مفهوم الكتلة التاريخية ضمن سياق تراكمي من التأشيرات على الفواعل الاجتماعية وتفاعلاتها في حقل المجتمع المدني ومنه إلى السياسي. كما أتى مفهوم الكتلة التاريخية، وغيره  من مفاهيم غرامشية كثيرة، حصيلة الحاجة لترسيمها ضمن انشغال صاحبها في تتبع تحولات السلطة والمجتمع في الثلث الأول من القرن 20 إيطاليًا ضمن إطار تفكير أوسع في الحركة العمالية ونقاشات الأممية والتصورات بشأن الطبقة المعول عليها في ماركسية كارل ماركس لقيادة التغيير الثوري في المجتمع المحكوم للنظام الرأسمالي، أي الطبقة العاملة/البروليتاريا، وحزبها وفق التوصيف الماركسي الذي توخاه غرامشي، أي الحزب الشيوعي. وهو، أي الحزب الشيوعي، أو حزب الطبقة العاملة، ما قدم وأسهم غرامشي في نقاش مسألته كثيرًا وبعيدًا عن التقاط لحظة الأوتوبيا الماركسية والتوقف عندها. ليكون قد خاض بذلك رحلة معرفية مقاتلة غير هينة بخصوص الطبقي والقومي والسياسي والمدني، كما السياسي والعسكري أيضًا، بتجديد ابتكاري شح نظيره على امتداد قرن من الوقت تقريبًا منذ لحظة غرامشي معه.

اقرأ/ي أيضًا: شهادة في فكر أنطونيو غرامشي

يوفر استطلاع المفهوم المعني لدى غرامشي والممكنات التي وسعها بخصوصه إمكانية القول أنه قصد إلى الكتلة التاريخية أن تكون في محل تراكم الجهد في التضاد مع السلطة، ليقع نقاشها ضمن سياق التفكير في تفكيك هيمنة وبناء هيمنة مضادة بتكوينات ثقافية وأخلاقية رفقة أدوات مادية مضادة بطبعها لتكوينات الوضع المادي والثقافي القائم. هنا تمامًا يبرز حضور أكثر ما اشتهر عن غرامشي، أو تم تناوله في منجزه، أي المثقف بطبيعته وأدواره. لكن حديث الكتلة التاريخية قد يتكئ على فهم المثقف بعدسة غرامشي، المثقف العضوي وضرورته في بناء هيمنة مضادة، في حين يبقى  التركيز على تكوين هذا المثقف تحديدًا، بوصف هذا التكوين مخاض حرج معقد التركيب، بشكل أساسي في ظل تعاطي مفهوم الكتلة التاريخية بوصفها أداة تثوير ديمقراطي للواقع أكثر من كونها عنوان أيدولوجي أو أوتوبيا عريضة أو مجرد مظلة توافقية.

على الرغم من التعويل على أهمية العامل الأيدولوجي والثقافي الحاسمة في تكوين وصيرورة الكتلة التاريخية بوصفها ائتلاف طبقات اجتماعية  بقوى ورؤى اقتصادية سياسية وثقافية متعددة، إلا أن الحسم فيما يتعلق بها يبقى رهين الطبيعة البرامجية والأهداف التي يرسمها تشكل مثل هذه الكتلة وحركة واقعها دون أدنى إغفال لميكانزماتها الناظمة وشكل العلاقات ضمنها. خاصة أن الهيمنة الثقافية لقيم سلطة رأس المال مثلًا، كما وصفها غرامشي، تنتقل بالعمال من إحداث ثورة تلتقي مع صالحهم الجماعي، إلى التساوق المتماشي مع قيم النزعة الاستهلاكية الفردانية، بما هي نزوع للخلاص الفردي بتحقيق مستويات من الرقي الاجتماعي على حساب تحقيق تغيير اجتماعي يمكن تسميته بالخلاص الجماعي.

هذا التركيز الشاسع لدى غرامشي على استحضار الكتلة التاريخية ضمن فهم أوسع للهيمنة بكليتها، يحضر من ضمن طبيعة ممارسة سلطة الهيمنة التي لا تكتفي بالعنف المادي بكل ما فيه من قسرية، بل تتعداه كثيرًا لنسخ تصوراتها الثقافية إلى وعي الجماهير. مكرسة بذلك ما فهمه غرامشي على أنه الهيمنة الثقافية أو بناءها وممارستها. بذلك لا يكون مثل هذا الفهم قد ابتعد عن التصور الذي لـابن خلدون بخصوص ولع المغلوبين بتبني تصورات الغالبين عن العالم والتساوق مع هذه التصورات المهيمنة من موقعها كبديهة مكرسة وراسخة بفعل القوى التي تقدمها وتعيد إنتاجها.

هنا تحديدًا، وبوصف الهيمنة الثقافية أداة من أدوات السياسة، أو السلطة وصراعاتها، التي تتداخل ضمن حدود المجتمع المدني وتفرض ما تستطيع فرضه في إطار حدوده وعليها تنجلي الروابط الأكثر خطورة بخصوص الهيمنة الثقافية أداة من أدوات السيطرة. ليصبح الكشف، الذي دعا وبشر بضرورته ميشيل فوكو لاحقًا، وفضح الوجه الحقيقي للمؤسسات والأدوات التي تستند عليها السلطة في صياغة هيمنتها من بين المهمات الأساسية في بناء هيمنة مضادة فاعلة في الصراع ضمن الفضاء المدني ومثله السياسي.

من بين الضرورات التي تحضر عند تناول الكتلة التاريخية بروح الوقت الحاضر المستقبلي تأتي ضرورة من ضرورات سلامة كيلة، الذي أنفق حصة مهمة من الاهتمام بإيضاح التحوير والتعويم الخطير للمفهوم، أي الكتلة التاريخية، بكشف ممارسة لي عنقه على درب إعادة إنتاج وترويج مقولات سوفييتية موطنية، بعيدة حتى عن الفهم الغرامشي لسؤال القومية، تريد للكتلة التاريخية أن تكون جبهة حصرية من نوع سياسي تحالفي قوامه أحزاب وتيارات في الفضاء السياسي بعيد كل البعد عن الهم والاهتمام الغرامشي ببناء كتلة قوامها طبقات  وقوى اجتماعية  يجمعها سياق الصالح العام المشترك والواسع وتؤسس لها هيمنة ثقافية غير قسرية، بل أساسها القبول العارف. أي تجمعها مفردات أعمق بكثير من تلك التي للتحالف في المستوى السياسي وأدواته المختلفة بطبيعتها.

يوفر استطلاع المفهوم المعني لدى غرامشي والممكنات التي وسعها بخصوصه إمكانية القول أنه قصد إلى الكتلة التاريخية أن تكون في محل تراكم الجهد في التضاد مع السلطة

ليمكن القول أن الكتلة التاريخية النافعة في الفهم الغرامشي وبعض ما تطور استنادًا عليه ليست جبهة معارضة سياسية ولا معارضة بالضرورة بقدر ما هي إرساء أسس توليدية لبناء اجتماعي جديد من شأن إحدى مراحله أن تحقق انعكاسات مرجوة في الحقل السياسي من بين حقول أخرى. هنا ربما يفيد التمثيل على وقائع تتعلق بمدى خطورة التعاطي مع التحالف السياسي أو ما يرجى منه على أنه كتلة تاريخية وما يرجى منها. بمثال الثورة الإيرانية، أو مآلاتها بعد 1979، والمجزرة المفتوحة التي دشنها الخميني بحق كل من أسهم في معارضة وتفكيك نظام الشاه وتسبب في أن يتسلم الخميني وحزبه السلطة. أو مثلًا بالانقلاب السريع الذي شهده رئيس الإكوادور السابق رافاييل كوريا من حليفه السياسي، لـ10 سنوات بحالها، لينين مورينو بعد آخر انتخابات شهدتها البلاد سنة 2017، إذ لم تتوقف حدود مثل هذه الانقلابات عند الإقصاء لأشخاص بعينهم عن السلطة بعد التحالف السياسي معهم، بل تحويل نهج اجتماعي ثقافي سياسي كامل نحو ما يمكن نعته بالاتجاه المضاد تمامًا، وهذه حالة ليست أجنبية عن الواقع السياسي الاجتماعي في أكثر من محاولة تغيير عربية.

اقرأ/ي أيضًا: أنطونيو غرامشي والعالم العربيّ.. لقاء من ترتيب الهزائم والخيبات

إذًا، يستمر مفهوم الكتلة التاريخية بالحضور سياسيًا، بموضوعية نسبه الغرامشي ودونها. لكن ما يفيد عند الركون إلى أي مفهوم يكون بأخذه ضمن خصوصيته التاريخية وممكنات مساءلة نزعاته المادية والثقافية كما ممكناته الحاضرة أمام الوضع القائم. لذلك يبقى في باب الضرورة بشكل من الأشكال اعتبار الفائدة من وراء مفهوم كـ"الكتلة التاريخية" بما هو مفهوم غير سائل ولا مطاط، بقدر ما هو واسع وديالكتيكي تبرز من ضمنه أهمية الأفكار المركزية في الفعل التاريخي وتداخل جوانب كثيرة من جهد غرامشي ضمنه، بداية بالثقافة والمثقف والمجتمع المدني واستيعابه المتدرج الديمقراطي للسياسي والأيدولوجيا/ات وصولًا إلى الحزب والهيمنة ومنهما و/أو معهما نحو حرب المواقع وتوليد "البناء"  الجديد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

غرامشي في الشوارع.. نصب وجداريات

شذرات غرامشي: لكي نتمكن من اللقاء