28-مايو-2020

يُلقي الحجر المنزليّ الضوء على "العزلة" باعتبارها نمطًا للحياة والعيش، وتُلقي "العزلة" نفسها، بعدما فقدت معناها المُتعارف عليه كـ"خلوة"، الضوء على أشكالها الأخرى، تحديدًا تلك التي تأتي لتُصادر الحياة نفسها، بمختلف أساليبها، وتُلغي حقّ الإنسان في تقرير شكل حياته، كالاعتقال مثلًا، بما هو عزل قسريّ وإبعاد ونفي وتغريب ومُحاولة لانتزاع الذات من ذاتها، وخلق أخرى جديدة أو تشويه المتوفّرة على الأقلّ في انتظار أن يصير طمسها أمرًا مُمكنًا.

وضع يوليوس فوتشيك قارئه وجهًا لوجه إزاء تجربته التي جعلت حياته داخل السجن تتمحور حول سؤال: متى سأموت؟

استعادة الاعتقال كشكل من أشكال الحجر القسريّ يأتي ضمن مُحاولات فهم الحجر نفسه، إن كان الذي يبعثُ على الضجر، كما هو الحال ما بعد "كورونا"، أو ذاك الذي يُصادر مشاعر الإنسان حينما يُصادر حياتهُ كاملةً، أي الاعتقال. لذا، بدت العودة إلى الوراء والنظر في تجارب الاعتقال الفريدة أمرًا ضروريًا، فبعد تجارب كلّ من ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي، تحضر أيضًا تجربة الكاتب والصحفيّ التشيكيّ يوليوس فوتشيك المريرة في سجون جهاز الغيستابو النازي، حيث جرى إعدامهُ.

اقرأ/ي أيضًا: النجاة بالكتابة.. هكذا فعل ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي في العزل القسري

يختلف يوليوس فوتشيك عن أنتونيو غرامشي وناظم حكمت في رغبته في تدوين وسرد تفاصيل تجربته، كمحاولة لتوثيقها، في الوقت الذي اختارا فيه، أي المُناضلان الإيطاليّ والتركيّ، الأوّل من داخل سجنه والآخر بعد خروجه منه، تجنّب الحديث بإسهاب عن تجاربهما، ولأسبابهما الخاصّة، على عكس فوتشيك الذي وضع قارئه وجهًا لوجه إزاء تجربته التي جعلت حياته داخل السجن تتمحور حول سؤال: متى سأموت؟

الإجابة ليست مهمّة بما أنّ السؤال نفسه قد تشكّل أصلًا في ظلّ ظروفٍ تؤكّد حتمية وجودها بل واقترابها أيضًا، ممّا يجعل السؤال هنا تحصيل حاصل، أو نتيجة لأسئلة أخرى عن الضربات التي يسعُ رجل مُعافى أن يتحمّلها يوميًا، وعن الخطّ الفاصل بين الواقع ونقيضه والمسافة بين العصا وجسده، فوتشيك، والوقت الفاصل بين حفلات التعذيب والإحساس بمخلّفاتها وآلامها.

هكذا، تأخذ الأسئلة مسارًا مُختلفًا، حيث يصير السؤال عن كمّية الضربات التي بوسعهِ تحمّلها خلال ساعة واحدة، وليس عن الكمّية التي بوسعه تحمّلها يوميًا، ممّا يؤكّد أنّ التعذيب بحقّه، وفقًا لما يرويه في كتابه "تحت أعواد المشنقة" (1945) كان مُتصاعدًا، والهدف: إنهاء حياته بأقصى سرعة مُمكنة، وهو ما كان ينتظرهُ يوليوس ليُخلّص جسده من التعذيب.

لا يتوانى الصحفيّ التشيكيّ عن سرد تفاصيل تعذيبه التي حكمت حجره/ عزله القسريّ في سجن "بانكراك"، حيث يقول: "كأنّ العصا الآن تشقّ طريقها إلى دماغي مُباشرةً"، ويُضيف: "أدور بلساني في فمي وأجرب أن أعد الأسنان التي سقطت". مشاهد كهذه مأخوذة من عشرات المشاهد المنتقاة بدورها من مئات المشاهد الأخرى، كفيلة بكشف وحشية ما تعرّض لهُ يوليوس داخل السجن، وتبرير سؤاله المستمر عن موعد موته. الأسئلة نفسها هنا ليست أكثر من جزءٍ من أمله في النهاية، لا النهاية بمعنى خروجه من السجن، وإنّما بمعنى موته ونهاية حفلات التعذيب الهمجية بحقّه.

بناء على إيمانه بأنّ الإنسان لا يخسر شيئًا حينما يموت، بينما يخسر كلّ شيء حينما يخون رفاقه وقضيته ووطنه اختار يوليوس فوتشيك الموت على الانهيار تحت ضربات الجلاد

تلاعب الأمل بفوتشيك، فبعد كلّ جلسة استجواب/ تعذيب، كانت نهايته تقترب، يشعر بها ويحسّها أيضًا كما لو أنّها تحدث: "النهاية ما عادت بعيدة الآن"، ولكنّها سريعًا ما تبتعد لتضرب له موعدًا جديدًا مع جلسات الاستجواب التي يُغادرها، حسبما يظنُّ هو وجلّاديه، مُنتهيًا بشكلٍ يؤكّد أنّه لن يعيش لأكثر من ساعاتٍ قليلة، ولكنّ العكس تمامًا هو ما كان يحدث حينها: "أنا ما زلت عاجزًا عن الموت (...) أينبغي عليّ أن أذهب لملاقاته؟ وكيف؟".

اقرأ/ي أيضًا: شريط كوستاريكا عن خوسيه موخيكا.. رجل يعيش في حكمته

هكذا، صار فوتشيك موضوعًا داخل حجره بين مسارين أو خيارين: الاعتراف بما يودّ النازيون معرفته، وهذا يعني جرّهُ لرفاقه إلى مصيره. أو انتظاره لحتفه تحت التعذيب، وهو المسار الذي سلكهُ بناء على إيمانه بأنّ الإنسان لا يخسر شيئًا حينما يموت، بينما يخسر كلّ شيء حينما يخون رفاقه وقضيته ووطنه. لذا، يكون الموت مُخيفًا: "إنّنا نحن الشيوعيون نحبّ الحياة، ولذلك فإنّنا لا نتردّد في المخاطرة بحياتنا لكي نشعل ونمهد الطريق نحو حياة حقيقية حرّة كاملة ومرحة تستحقّ هذا الاسم. فليست الحياة الذليلة – في القيود والخضوع والاستغلال – حياة، إنّما هي وجود بائس لا يليق بالإنسان".

الإنسان، بهمومه وصراعاته وكفاحاته اليومية، هو ما يعني يوليوس فوتشيك حتمًا، ويشغل الجزء الأكبر من أفكاره أيضًا، تلك التي ظلّت حبيسة ذهنه، باستثناء ما تمكّن من تمريره داخل كتابه هذا. ولهذا السبب، أي مكانة الإنسان عنده، يقول: "إنّنا لا نتردّد مُطلقًا في التضحية بمصالحنا الشخصية لكي نفوز بمكان لائق تحت الشمس من أجل إنسان حرّ سليم مرح لا يتعرّض لإرهاب نظام الفوضى والاستغلال، سواء كان ذلك بسبب فظائع الحرب أو بسبب البطالة".

تبدو إذًا قيمة الأفكار النضالية لفوتشيك واضحة، وكذا نضوجها، الأمر الذي يجعل منها أفكارًا خطيرة يجب وأدها في عين النازيين الذين رأوا في اعتقاله وعزله تقويضًا لأفكاره وعزله عنها من خلال إجباره على الاعتراف تحت التعذيب بما يجعله خائنًا في نظر نفسه قبل رفاقه، وهو ما يجعل أفكاره دون قيمة بما أنّها تخصّ شخصًا خائنًا، غير أنّه أنهى هذه المساعي باختياره الموت في سبيل وطنه ورفاقه وقضيته وأفكاره، خاصّةً وأنّه ليس هناك "عذر للذين أدركوا الفكرة وتخلّوا عنها بعد ذلك. إن من يعرف الشّر لا يحقّ له أن يخطئ، ولا يجوز له أن يخون نفسه، لأنه سوف يخون الآخرين" وفق يوليوس فوتشيك دائمًا الذي أسهم بقوة شاسعة في قوة ضرب المثل بشأن  كيف لا يكون الموت إلا محاولة تقديم إجابات نافعة للحياة، وكيف أن دروب العزلة والعزل لا يمكن لها أن تشكل نهاية حتيمة للحياة، خاصة خارج تأويلاتها الفردية الضيقة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضرورات مانيفستو الإضراب الأيرلندي

ردًا على "ضرورات مانيفستو الإضراب الأيرلندي"