22-سبتمبر-2019

اللوحة للكاتب

إذا صعدتَ ثلاث عشرة درجة على سُلَّمٍ خشبيٍّ قديمٍ تكون قد تربّعت على سطحِ بيتٍ عربيٍّ شبه عشوائي ولا بد لك أن تناورَ أسلاك الهاتف والكهرباء وحبال الغسيل كي تصلَ سالمًا إلى المكان الذي أقصده، والذي فيه قرأتُ معظم ما قرأته في حياتي والذي أسّسني وأدّبني فيما لو كنتُ مؤدّبًا.

درجة الحرارة تكادُ تلامسُ الأربعين عند الساعة الخامسة بعد ظُهرٍ صيفيٍّ حسكاوي، الطاهر وطّار صاحب عرس بغل، وبطله مجّاج الحشيش الأفغاني وصندوق الحلوى الذي أخذه إلى عوالم تشبه الجنة حوّلوني إلى شخصية في الرواية، لم أكن غريبًا بينهم وحتى شاركتهم مرةً في المقبرة المجاورة لحارتي الخارجةِ عن الجغرافيا والزمن، فرشتُ ما أملكه لاستقباله، لا أبالغ إن قلتُ إنني كنت أخطط لقتله حتى إنني نكشتُ قبرًا تحضيرًا لهذا الطقس الساذج.

لطمني سؤالٌ، كيف لكَ أن تغدر هكذا، وهو البطل وصاحبك الجديد كيف؟!

أتى الجواب مع صوت بائع المازوت: مازوووووت.. ماززززوت.. مازوووووت..

ركنَ موتور الركس وترك صوت البياتي عاليًا، كان يحمل كيسًا أسود، وأدعُ لك التخيل ما كان يوجد بداخله، الضوء يأتي متقطعًا من السيارات التي تنعطف يمينًا، حيث كنا في مثلثٍ من تقاطع السكك الحديدية التي وإن زارها قطارٌ، كان لسرقة قطن وقمح المحافظة ونقله للعاصمة الصناعية، مرتين في السنة. فصلان تمامًا، فصلُ القمح وفصل القطن، أما فصلُ البترول فله السنةُ كلها!

قال عامر الصلّوح: فعلتُ كلَّ ما هو إجرامي وشاركتُ في أغلب مشاكل الأحياء وشربتُ كل أنواع المسكرات والمكيّفات، وتعرفتُ على الكثير، وأغلبهم شاهدوا الأرانب التي كانت تصنع الحلوى، لكنني أفتقد هذا المكان دائمًا، أتذكر عندما كنت أرمي الحجارة على القطار وأنا طفل، وكم سيفًا صنعتُ على هذه السكة! كل الدمار الذي في داخلي والذي خلّفته في نفوس الكثيرين لا يقارن بهذا الفعل الكارثي، أنا عامر ابن الصلوح البائس، استدرجتُ الكثيرين إلى الخرائب، بحجة الأرانب التي تصنع الحلوى، فلم أرَ المتعة ولم يروا الحلوى، آه ما أبأسني.

هامش

القطع الخشبية التي تتربع عليها سكة القطار سُرق معظمها واستخدم للتدفئة في شتاءٍ ما، حيث ارتفع سعر الوقود وبدأت الأهالي بالبحث عن البدائل فوقعت أعينهم على هذه الأخشاب (فكرة شيطانية)، ولا أعلم على من يقع اللوم، المدينة ذات الآبار النفطية الكريمة وأهلها يقرصهم البرد وهم يشاهدون - بحسرة الطفل اليتيم لقطع الشوكولا – كيف تنقل الصهاريج نفطهم للمدن الكبرى، ومعظم سكانها يصفوهم بأنهم كالحَوش، قاطني الخيّم، مربيّ الغنم والدواجن، لابسي الكَلابية وعقال التخلف ولا يكتفوا بذلك، بل حتى بالمسلسلات الدرامية كانت الشخصية الساذجة الغبية، عديمة الأخلاق والذوق تتجسد بشخص قادم من المناطق الشرقية النامية، ويُقصد بالنامية أي  قيد النمو تخلفًا وفقرًا ممنهجًا، وحتى في مفاضلة التسجيل الجامعي، يكون القبول الجامعي في هذه المنطقة بعلامات أقل، ويستفاد منها طلاب المدن الراقية أجمع، وبعد التخرج يلزمهم القانون بالبقاء لسنتين على الأقل ولهم الأفضلية في التوظيف على أبناء المحافظة المتخلفين، فهذا يكون كهدية وتعويض لقدومهم وإكمال دراستهم بهذه البؤرة النامية، لا أدرى من أسماها بالبقرة الحلوب هذه المنطقة، لكنهُ أصابَ تمامًا، فليسَ هناك أبقرُ من هذه الحال!

"ليت الغراب الذي نادى بفرقتنا عار من الريش لا تأويه الأوكار": هذا ما قاله البياتي من مسجّل الصوت، وعندها هبّت نسمة كأنها تريد لفت انتباههم لشيء غامض يحدث على السكة المقابلة، شاهدوا قبيلةً تولوّل، كانوا قصار القامة، يحفرون تحت السكة وينتزعون الخشب وينقلوه على أكتافهم النازفة، فقد علموا عندها أن المدينة اجتاحتها الأقزام، وأنّ مارأوه في الأفلام والقصص الخرافية صار حقيقة.

تنكة مازوت

من المؤكد أن البغل الذي جرَّ برميل المازوت الصغير نسبيًا بالمقارنة مع الصهاريج المسلوبة لم يكن بغل الطاهر وطار، وكان يعاني فصامًا بالشخصية، لا لأنه عقيم خلقًا.. كلا، بل بسبب صاحبه البائع، لامتلاكهِ سوطًا من المعدن الرفيع الذي صنعه بنفسه من أسلاك عواميد الكهرباء، مدببًا إياه بأشواكٍ اصطناعية، فضربة منه تكفي لاقتلاع اللحم من ظهر البغل، هذا الفعلُ أشبه بفعل جلادٍ يعاقب معارضي "الرئيس"، ولافتقار القياس اللتريّ الدقيق كانت تنكة الجبنة أفضل خيار لقياس كمية المازوت المباع، فبعد خلط المازوت بالماء، تُزوّر التنكة من الداخل، حيث يُلحم في قاعها قطعة معدنية بسماكة أربع أصابع وهكذا تكتمل عملية النصب الوقودي، يا لهذه الشخصية التي يتمتع بها البائع، يصب غضبه على البغل عند كلّ طلعةٍ، وخاصةً عندما يفقد البغل قواه، وكوابل من البَرَد يسقط السوط على ظهره، مع خليط من الشتائم لأبيه الحمار أو الحصان الغبي، قائلًا له بشعرية النواس: يا/ سرابًا/ هزَّ/ القمر/ كن/ رجاءً/ لا/ كالبقر، وأعجب من ذلك هي رحمة البائع عند إصابة البغل في ساقه، فيقف معه في ساحة السرافيس الكبيرة ويطعنه بسيفه المكلوم في عنقه بعد صياحه أمام الجمع أن الموت أرحم له من جبر ساقه التي لن تجبر، فيتعجب ويمدح الجمع رأفة البائع ورُفعة أخلاقه، وهكذا يموتُ البغلُ ويبقى صاحبهُ: مازوووت.. مازوووت.

معرفةُ هناك

إن قضاءكَ أكثر من عشرين عامًا بجانب سكة مهجورة يمر القطار فيها نادرًا يمنحك من السذاجة ما يكفي أن تقف لساعاتٍ بشكل يومي جانب عمود كهرباء، والتأمل في القمامة التي كانت تتمدد وتقترب أكثر من الشارع العام الذي تقسمه سكة القطار إلى نصفين، شعورٌ يخنق الزمن ويرسلك إلى أعماق هذا العالم الصغير الذي كنّا محصورين فيه، أفكارك تأتيك بزوايا حادة كتقاطع السكة مع الشارع ومن الخلّاب أنها تمرُّ بالمصفاة الطبيعية، القمامة أقصد، مصفاة بثقوب صغيرة مهترئة، تتسلل منها بقايا وعيٍّ كوميض أسلاك الكهرباء في عناقٍ دافئ عند هبوب الرياح، ويُطلب منك بعد كل هذه المآتم أن تكون حالمًا ويسألونك عن رأيك بالاحتباس الحراري وأكل الخضار وحقوق الحيوان، فتقول لهم: إذا صعدت ثلاث عشرة درجة على سُلَّمٍ خشبيٍّ قديمٍ، ورأيتَ أنّك خارجُ الحياة وشمالُ سكّةِ الحديد، ستعرفُ كما لا يعرفُ أحدٌ غيرك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فشلتُ مرارًا في تلحين أغنية السعادة

هل انتهت الأسئلة؟