30-أبريل-2020

من الفيلم (IMDB)

يفاجئنا المخرج الصربي أمير كوستاريكا في شريطه الوثائقي الجديد "إل بيبي: حياة سامية" (El Pepe: A Supreme Life) عن الرئيس خوسيه موخيكا الذي تبوّأ منصب رئاسة الجمهورية في الأوروغواي بين عامي 2010 – 2015.

في فيلم "إل بيبي: حياة سامية" نرى رئيس الأوروغواي السابق خوسيه موخيكا مقاربًا لفكرتنا عن الأنبياء وهم يلقون تعالميهم

يكثّف الشريط الوثائقي الذي صدر الشهر الفائت، ويُعرض على شبكة نتفليكس، حياة موخيكا في الماضي كمناضل ثوريّ، ويربطها بحياته اليومية المتقشّفة، القائمة على العمل في الزراعة والنشاط المدني لصالح فقراء بلده، من خلال تصويره في آخر أيامه كرئيس للبلاد.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Platform".. الجوع لا أخلاق له

نتعرّف على رئيس مليء بالحكمة، يفعل كل ما يفعله انطلاقًا من قناعات رسّختها تجربته النضالية، مُعيدًا إلى الأذهان ليس صورة القادة العظماء الذي يتفانون في سبيل أفكارهم، دون أن يعطوا لأنفسهم تلك أي مساحة من الرفاهية، إنما نراه مقاربًا لفكرتنا عن الأنبياء وهم يلقون تعالميهم، لكأنّ الفيلم آيات أو مزامير، وبذلك يُحطم هالات رؤساء الدول المحاطين بالحراسة والأمن، حين لا نراهم إلا في المؤتمرات الصحافية، وفي المحافل الدولية يسيرون على السجاجيد الحُمر.

موخيكا الذي يعي جيدًا ما يفعله، يؤكد أنه جمهوري لكنه يرثي للحال المذهل من الانفصال عن الواقع والمبادئ الذي جعل رؤساء الجمهوريات لا يختلفون عن الملوك في شيء.

اشتهر الرئيس موخيكا منذ سنوات بنمط حياه المتقشف، ورفضه الإقامة في القصر الجمهوري وتمسكه باستعمال سيارته القديمة، وتخليه عن الحرس، لكنّ تلك الصورة الإعلامية ظلّت ناقصة إلى حدّ كبير، إذ لم يعط الإعلام أية إشارات عن الماضي النضالي الثوري للرجل، فبدا أنه مجرد شخص أقرب إلى ناسكٍ محمّل بالرؤية الأخلاقية ويمارس العمل السياسي، لذا يأتي الفيلم ليزيل الغموض حين يجعل من نمط الحياة هذا جزءًا من سياق متكامل في التجربة السياسية والتفكير وفلسفة الحياة، فموخيكا انخرط في سنوات شبابه ضد الدكتاتورية العسكرية في بلده ضمن حركة التوباماروس التي تبنت أسلوب حرب العصابات، وقدّمت تجربة اشتراكية روبن هودية، حين راحت تسطو على البنوك وتوزّع الغنائم على الفقراء. موخيكا اعتُقل عام 1971 مع رفاقه وقضى 13 عامًا في الزنزانة الانفرادية، بعد تجربة فرار هي الأكبر من نوعها في ذلك الوقت لسجناء من المعتقل.

يقدّم الشريط الكثيف لمحات أساسية في تاريخ الأوروغواي السياسي، من خلال شهادات الرئيس وأصدقائه، ومن خلال اقتباسات من فيلم "حالة حصار" لليوناني - الفرنسي كوستا غافراس الذي يرصد اضطرابات بدايات السبعينيات في الأوروغواي.

ما حدث في هذا البلد الصغير يتقاطع بشكل كبير مع تواريخ البلدان في القارة الأمريكية اللاتينية، فكلها عانت صعود الدكتاتوريات العسكرية عبر الانقلاب، وشهدت قمعًا لا مثيل له في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، إضافة إلى التدخل المسلح من الولايات المتحدة، حدث ذلك في الأرجنيتن وتشيلي والبرازيل وغيرها، ولعل القارئ العربي غير بعيد عن ملامح هذه الفترة الدامية بحكم اطلاعه على الأعمال الروائية التي كرسّت تيارًا أدبيًا واسعًا عرف بأدب الدكتاتورية مثّلته روايات لغابرييل غارسيا ماركيز وماريو بارغاس يوسا وكارلوس فوينتس.. وغيرهم.

في مشهد من الفيلم، يشرّح إليوتيريو فرنانديز هويدوبرو، وزير الدفاع في حكومة موخيكا وصديقه، سبب تلك الانقلابات التي جلبت القمع والموت والبؤس، ويطلق ما يشبه خلاصة شعبية يتداولها اللاتينيون: "المكان الوحيد الذي لا تحدث فيه انقلابات هو الولايات المتحدة، لأنه لا توجد هناك سفارة للويلات المتحدة".

من المعروف أن الولايات المتحدة اعتبرت أمريكا الجنوبية حديقة خلفية ومنجمًا للاستثمار، وتحت مبادئ سياسية عديدة، أبرزها مبدأ مونرو، حوّلت فكرة التضامن الإقليمي إلى وسيلة سيطرة، كما دعمت الانقلابات التي قهرت القوى الشعبية وحافظت على امتيازات الأثرياء.

في نصوص أرغوانيّ آخر هو إدواردو غاليانو نعثر على الكثير من ملامح تلك المرحلة الكالحة في حياة هذا البلد الصغير حيث النظام الديكتاتوري "يصنع الفقراء ويعلن الحرب عليهم".

تعرّف الرئيس موخيكا على زوجته لوسيا توبولانسكي في سنوات الشباب، خلال عملها في تزوير الوثائق، وسُجنا معًا، ثم بات الارتباط العاطفي تأكيدًا على الأحلام التغييرية التي يحملانها.

موخيكا على العكس من كل الحكماء الذين يمكن أن نتخيلهم يعطون دروسًا ويسردون قصصًا؛ هو ذاته الدرس، وهو ذاته القصة. باختصار، هو رجل يعيش في حكمته

موخيكا تجلٍّ للزهد في هيئة إنسان. إنه ينظر إلى كل ما جرى له بعين الرضا، فلولاه ما كان له أن يصل إلى ما هو عليه الآن. يقول في الفيلم "ربما يكون السيئ جيدًا"، مقرًّا بالاعتراف لأفضال نوائب الزمن في نحت شخصيته الفريدة.

اقرأ/ي أيضًا: إدواردو غاليانو.. شهرزاد الجنوب

يكاد كوستاريكا لا يتحدث مع أنه يظهر في المشاهد التي تقال فيها أقلّ الأشياء أهمية، كما تبدو ظاهريًّا، مثل مشاهد البدايات التي يُجرّب فيها شرب المتّة مع موخيكا، وفي مشاهد النهايات أيضًا حين ينتقده الرئيس على طريقة شربه لأنه يترك نصف الكوب مملوءًا، وبعد ذلك يشربه نيابةً عنه، وكأنّه يقول له في روح ضيافة غير مسبوقة: سأسقيكَ وحين لا تقوى على شرابي سأعيركَ فمي.

أما موخيكا فعلى العكس من كل الحكماء الذين يمكن أن نتخيلهم يعطون دروسًا ويسردون قصصًا؛ هو ذاته الدرس، وهو ذاته القصة. باختصار، هو رجل يعيش في حكمته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم أماركورد (1973): هيّا نضحك على الفاشية

الرفيق كيم لا يغضب.. يضحك فقط!