30-ديسمبر-2022
غلاف المجموعة الشعرية شارع الخامسة صباحا

المجموعة الشعرية شارع الخامسة صباحًا

يهدي فادي طفيلي مجموعته الشعرية "شارع الخامسة صباحًا" إلى فادي أبو خليل.

فادي أبو خليل شاعر وممثل ومخرج وصحافي، انقطع عن النشر والتمثيل والكتابة منذ سنوات، وانعزل في بيت أهله تاركًا خلفه صداقات كثيرة مبتورة، وحيوات ناقصة.

تصر قصائد مجموعة "شارع الخامسة صباحًا" على التجوال في العالم كما لو أنه غابة بلا مساكن يُسكن إليها

فادي طفيلي ليس الوحيد الذي يتذكر فادي أبو خليل من مثقفي لبنان وكتّابه وشعرائه. لكنه قد يكون الوحيد الذي يبدو وهو يتذكر صديقه كما لو أنه يرثيه. أقول يرثيه حتى لا أقول يرثي نفسه. فعصب المجموعة الشعرية يتجمع في الفقد والخسارة. في خسارة النفس وفقدان الهوية الموسوم بها منذ ولادته. ليس وحده من يعاني هذا الفقدان، لكنه واحد من قلة تؤشر عليه في نفسه وفي نفوس من يقرأ مجموعته، بمن فيهم فادي أبو خليل نفسه، الذي قد يكون قرأ المجموعة.

الفقدان الذي نتحدث عنه في هذا المقام متعدد الطبقات ومتشعب الحواشي، بمعنى أن تكرار التجول في طرقات بيروت ليلًا ونهارًا، وفي "شارع الخامسة صباحًا"، لا يدل إلا على تلاشي النفس وآمالها. هذا رجل، والحديث ينطبق على الفاديين وعليّ أنا نفسي وعلى آخرين كثيرين، يجوب شوارع المدينة لأنه لا يملك ما يؤوب إليه في نهاية الطواف.

وحين يعود إلى بيته، فإنما يعود إلى الحضن الذي صنعته النساء للبنانيي الحرب الأهلية المدمرة. الملجأ الوحيد الذي يعيد الرجل إنسانًا، بعدما كان في الشوارع مجرد قاتل أو قتيل. والحالان متشابهان إلى درجة الإعاقة. فالقاتل مشروع قتيل والقتيل كان مشروع قاتل أيضًا. سوى ذلك، لم تبق تلك الحرب للذكور ما يعتدون به. هم فقط قتلة وقتلى، والخسارات التي تضرب نفوسهم وجسومهم بالغة الثقل والفداحة.

وهم حين يلجأون بعد تعبهم إلى البيوت، فإنما يخلعون عن أنفسهم كل صفة من الصفات التي أتقنوا ادعاءها في الخارج. إنهم ببساطة شديدة مدركون جيدًا أنهم خسروا ذواتهم، وأن خسارتهم لا يمكن أن نقارنها بما خسرته النساء اللواتي أبقين على الحياة ممكنة في تلك البلاد. خسارتهم هي خسارة من لا يستطيع أن يخسر شيئًا بعد أو يبدد حياة سبق له وأن بددها.

خلال فصول الحرب الساخنة، كانوا يخرجون من البيوت، الملاجئ، ليقتلوا إن أمكنهم ذلك أو يُقتلوا. ولا طريق فرعية بين المصيرين. وحين تحولت الحرب باردة، باتوا يخرجون ليتمعنوا في ما جنته أيديهم، ويراقبوا مصائر الذين نجوا معطوبين، وهم منهم.

في مجموعة فادي طفيلي المهداة إلى فادي أبو خليل، لا يمر طيف مؤنث، ولا تُخاطب فيها أنثى طوال صفحاتها. ورغم الإهداء الذي يحكم مسارها، أو ربما بسببه، تبدو المجموعة كما لو أنها تدفع صاحبها للتمعن في ماضيه حقًا، ومحاولة استخلاص جوهر عيشه.

تبدو مجموعة "شارع الخامسة صباحًا" كما لو أنها تدفع صاحبها للتمعن في ماضيه ومحاولة استخلاص جوهر عيشه

الصداقات التي صنعها المرء خلال مسيره في حقل الألغام المتمثل بكل ما هو خارج البيوت والمساكن، هي التي تجعل العالم قابلًا للقص والرواية. وعلى نقيض درجة شائعة في الشعر والنثر، لا تحضر المرأة بوصفها صانعة مصير الرجال، ولا تحضر بوصفها الغاية والمراد. على العكس، تبدو الحياة في عنفها المنقطع النظير قادرة على تحويل الذكور هؤلاء إلى مجرد مجدفين في مركب يغرق، وعليهم الاعتناء ببعضهم بعضًا لأن خسارة أحدهم قد تعني خسارة الجميع.

ولا تنحو هذه المجموعة منحى الشعر الذكوري الذي يفترض أن سعي الرجل، في الشعر، ينتهي ما أن يلتقي المرء بأميرة أحلامه ويضمه وإياها سرير أو مطبخ أو بيت. بل تصر قصائد المجموعة هذه على التجوال في العالم كما لو أنه غابة بلا مساكن يُسكن إليها. وفي هذا الإصرار ما يفصح بلا مواربة عن حجم الخسارات التي تصيب الرجال في البلاد التي تأكلها الحروب أو الاضطرابات، ما يجعلهم في نهاية الأمر، وحين تضرب الهزيمة أعصاب مناعتهم، بلا صفات على الإطلاق. في هذه اللحظة، يلجأ المرء إلى أهله، كما فعل فادي أبو خليل، أو إلى حبيبته أو زوجته كما فعل فادي طفيلي، وهو متيقن أن هذا اللجوء هو لجوء من لا يملك أي من خياراته.


"شارع الخامسة صباحًا" مجموعة شعرية لفادي طفيلي صدرت عن دار الجديد ببيروت عام 2020.


مقتطفات

أحاول استعادتك الآن

ربما من دون نتيجة.

أتذكر حبنا الدفين للذئاب

حبنا اليومي

والسري ذاك، الذي كان يلح في أول المقاهي

وفي الطريق الليلي

إلى الجبال؟

وهذياننا الأشبه بالعواء

ونحن نردد:

"من بلس إلى جاندارك

ومن جاندراك إلى بلس"!

(ص 15)

*

 

كانت يداي ناعمتين

لكن قلبي عليك

كان أقسى من الصخر.

هل تعرف أنني كنت أُلقّنُ فن الرماية

في أعالي "المتن".

(ص 20)

*

 

3\7\1978

لم يبق شيء من الأنين الآن،

تُذكرني أنت بهذا.

كل شيء ثابت في المكان.

كل شيء جامد في الصور.

صليب بارد على الجدار

رجل يابس على الخشب

صديقان تائهان

في الساعات المظلمة.

(ص 25)

*

 

نقف كي نكره الصيف معًا

حيث لا نصادف أحدًا

وبلا يفاجئنا شيء.

(ص 33)

*

 

ثم يأتي المسعفون

يرفعون العيون والإيماءات عن جذوع الأشجار.

ويضرب العمالُ البناء من جانبه

كي يخرجوا العالقين فيه.

وتظهر أمام أعيننا

كوة عميقة بلا قعر

هي الكهف الذي دخل فيه شفيع الحي

منذ مائتي عام

ولم يخرج أبدًا.

(ص 41)

*

 

طيف جسد كامل

برأس عنيد

وكتفين عريضتين،

وذراعين قويتين،

ورجلين طويلتين،

ونية مبيتة في القفز

من مكان مرتفع.

(ص 44 – 45)

*

 

قلة قليلة من أمثالنا

شماعتها الوهم

وثيابها الغياب.

(ص 47)

*

 

مثلك

لم أُقتل بعد

ولم أر أحدا يُقتل أمام عيني.

لكني أرى في المرآة عينيك يابستين

كالجيلاتين،

ويظهر فيهما قتيل مزدوج.

(ص 79)

*

 

كأن هدفنا كان أن نحيا في وقت آخر

مختلف عن الذي نحن فيه الآن،

في زمن غدر بنا وطعننا في الظهر،

أم أنه ببساطة حوّل وجهته

واستدار عنا.

(ص 93)