28-ديسمبر-2022
دراجو يانتشر وروايته

دراجو يانتشر وروايته

إذا كنتَ قد مررتَ في فترة سوء تفاهم مع الرواية، ونفرتَ من الحكايات الملفقة والشخصيات المختلقة والوقائع المتخيلة. وإذا كنتَ قد أقسمتَ بأنك لن تعود إلى قراءة الروايات، ثم سرعان ما شعرت جراء ذلك بإحساس طاغ بالذنب. وإذا كنت قد عرفت حيرة معذبة بين قولين شائعين: الرواية مضيعة للوقت/ الرواية أداة جميلة وعظيمة للمعرفة.

أن تتحول المقاومة إلى موضوع تمجيد دائم وتسعى إلى أن تتأبد وتصبح غايةً بحد ذاتها فهذا ضد المنطق، ضد مصلحة الأوطان، وضد والحياة

إذا كنتَ قد عشتَ أيًا من ذلك، فها هي رواية ربما تسطيع أن تصالحك مع نفسك ومع الفن الروائي، وتخلصك من الإحساس بالذنب، وتنتشلك من الحيرة.

في رواية "تلك الليلة" لـ دراجو يانتشر لا أثر للافتعال أو الحشو أو الثرثرة. هنا خلطة ذكية كفيلة بإنجاح أي رواية، قوامها مقادير مضبوطة من عناصر مختلفة فعالة: خلفية تاريخية تدور فيها أحداث جسام، قصة حب مؤثرة، شخصيات غنية إشكالية جذابة ومثيرة للتأمل، معلومة مخبأة تحفز التطلع إلى الصفحة الأخيرة، طريقة في السرد سريعة رشيقة وطاردة للسأم.

دراجو يانتشر هو أحد أشهر الكتّاب في الجمهورية اليوغسلافية السابقة (هو سلوفيني حاليًا). ولد عام 1948، حيث كان والده أحد الفلاحين الذين انضموا إلى جبهة التحرير الشيوعية "البارتيزان" التي حاربت النازيين. ترجمت أعماله إلى 21 لغة مختلفة وفازت بالعديد من الجوائز، من أهمها: "جائزة بريشيرن" وهي أرفع جائزة أدبية في سلوفينيا عن مجمل أعماله في العام 1993. وقد فازت رواية "تلك الليلة" بـ "جائزة كريسنيك" لأفضل رواية سلوفينية لعام 2011، و"جائزة الاتحاد الأوروبي للآداب" في العام نفسه، كما فازت بـ "جائزة أفضل رواية أجنبية في فرنسا" عام 2014. صدرت نسختها العربية عن دار صفصافة عام 2021 بترجمة أمل الشربيني.

تدور أحداث الرواية في يوغسلافيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وتتمحور حول فيرونيكا المرأة السلوفينية الفاتنة التي تتقاطع حياتها مع مجريات الحرب وتتشابك شؤونها الشخصية مع الأحداث العظيمة التي عصفت بالعالم. لقد ساقها قدرها لأن تقف في طريق قوى عاتية لا تأخذ الأفراد في حسبانها ولا تشفع للبراءة والنوايا الطيبة. صارت فيرونيكا، دون إرادة منها، بطلة لمأساة إنسانية، يقف فيها فرد في مواجهة جيوش وامبراطوريات وإرادات عاتية .. والنتيجة محسومة سلفًا في مواجهة غير متكافئة كهذه: الفرد هو الضحية حتمًا.

فيرونيكا امرأة حالمة جامحة ذات أهواء حادة متقلبة، تعيش مدللة في ظل زوجها الثري ليو جارنيك الذي يحبها إلى درجة العبادة، ولكنها تقع في غرام ضابط صربي في سلاح الفروسية وتهرب معه إلى مكان خدمته على الحدود البلغارية، لتختبر حياة المعسكرات وأفكار العسكر وأمزجتهم. وإذ تشعر أن هذه الحياة الغليظة تكاد تسحق روحها، فهي تقرر العودة إلى زوجها لتعيش في ضيعته الجديدة، برودجوسكا، أميرة مدللة بين الفلاحين والعمال والخدم، ولا يطول الأمر حتى تكتسب شعبية كبيرة بسبب تواضعها وحرصها على إقامة صلات طيبة مع الجميع. ولكن ضيعة برودجوسكا تغدو نقطة تقاطع خطرة في الحرب الكونية الدائرة. وصاحب الضيعة يحاول النجاة عبر السير على حبل رفيع مشدود وسط الأعداء الشرسين المتحاربين: النازيون من جهة والجيش اليوغسلافي الملكي من جهة ثانية، والمقاومة الشيوعية الصاعدة "البارتيزان" من جهة ثالثة.

غلاف الرواية

ينسج الرجل علاقات مع الجميع، فيستقبل ضباط الاحتلال الألماني في قصره ويقيم لهم الولائم والحفلات، وبالمقابل يدعم المقاومة الشيوعية سرًا بالمال والطعام والعتاد..

أما زوجته فيرونيكا فتبدو غافلة عن كل ذلك، تتصرف على فطرتها وتعيش أيامها بخلو بال وكأن الحرب غير موجودة. تكره أحاديث السياسة والمعارك والجيوش، وتقضي وقتها في أحضان الطبيعة أو وسط الضيوف أو أمام البيانو أو في التنزه مع أصدقائها، وبينهم ضباط ألمان، في الغابة وعلى حواف البحيرة.

ولكن إذا كانت هي لا تعبأ بالحرب، فإن الحرب كانت تعبأ بها وتعد لها ولزوجها مصيرًا مفجعًا.

ثمة خمسة رواة يتناوبون على السرد، كل منهم يشرح شيئًا ما عن حياة فيرونيكا، وبتقاطع الروايات الخمسة تكتمل اللوحة وتغدو أكثر دقة. واللافت أن فيرونيكا نفسها ليست من بين الرواة، لا أثر لصوتها ولا مكان لوجهة نظرها، إنها موضوع للحكي وحسب، وهو ما يضفي عليها شيئًا من الغموض ويسمو بها عن كونها مجرد شخص لتغدو أشبه برمز أو علامة على ظاهرة.

ولا يكتفي الرواة بسرد حكاية البطلة، بل إن كلًا منهم يتكفل بتقديم صورة من الحرب أو مشهد من يوغسلافيا.. فتتعدد زوايا الرؤية وتتنوع الأفكار وتغتني الرواية بتفاصيل ووقائع ومشاهدات كثيرة.

آخر الرواة الخمسة هو إيفان إيرانيك، وهو شاب يعمل في مزرعة بودجورسكا، ويكن لـ فيرونيكا إعجابًا مكتومًا يسير على حافة الغرام، ما يجعله فريسة غيرة مدمرة، وأداة طيعة في حبكة جهنمية ضد المرأة المحبوبة وزوجها. لقد هجر الضيعة وانضم إلى صفوف البارتيزان، وهناك صار واشيًا وشاهدًا وعنصرًا مساهمًا في المصير الذي رسم لأهل القصر بعد أن اتهموا بالخيانة العظمى والتعامل مع الألمان النازيين.

"تلك الليلة" رواية تستطيع أن تصالحك مع نفسك ومع الفن الروائي وتخلصك من الإحساس بالذنب وتنتشلك من الحيرة

يثير إيرانيك أسئلة مقلقة حول شرعية وسائل المقاومة التي تستعير من العدو قسوته ولا انسانيته بذريعة الغاية النهائية: تحرير الأرض ودحر المحتل. كما يثير أسئلة حول الأشخاص الذين تسكن رؤوسهم عقيدة حديدية فتحولهم إلى أدوات بلا رحمة لـ "وجهة التاريخ" وخدمة القضايا المقدسة.. ببساطة تحولهم إلى قتلة لكن برخصة من الشعب الذي يحتكرون هم معرفة مصلحته العليا.

يتراوح صوت إيرانيك وهو يروي ما بين الحنين والندم، وسرده مشوب بالشك والقلق وانعدام الطمأنينة، وهو وإن كان لا يقول ذلك صراحةً فإن ما نستنتجه من شهادته الروائية يمكن تلخيصه بما يلي: إن المقاومة هي رد فعل كريه أملاه فعل كريه آخر هو الاحتلال والعدوان، ويجب أن تبقى المقاومة في حدود هذا الفهم، أما أن تتحول إلى موضوع تمجيد دائم وتسعى إلى أن تتأبد وتصبح غايةً بحد ذاتها.. فهذا ضد المنطق، ضد مصلحة الأوطان، وضد الحياة.