17-فبراير-2019

سياسيات الهوية (Fox News/يوتيوب)

عام  2015  قدِمت إحدى المنظّمات الأوروبية (منظمة مجتمع مدني في الاتحاد الأوروبي) إلى محافظة  إدلب السورية بهدف مساعدة المرأة السورية في تلك المحافظة. أعد ناشطون ومعنيون قوائم عديدة باحتياجات المرأة السورية هناك لتستطيع إعالة أسرتها وتدبير أحوالها، حيث ذكر الناشطون أعدادًا كبيرة لنساء فقدن أزواجهن: إما نتيجة القتل في المعارك، أو السجن والقتل في سجون النظام، أو الخطف من مجموعات مجهولة، إلى ما هنالك من أسباب للموت والفقد يعيشها السوريون ويعرفها العالم، إلى جانب ذلك عرضوا أن ثمة نساء يعشن مع أطفالهن في بيوت مدمرة جزئيًا على نحو يخلو من أية مقومات للحياة.

تم خلق صراعات جديدة لا علاقة لها بما نشأ علم الاجتماع السياسي والدراسات الاجتماعية الأخرى لأجل حله

عند اجتماع وفد المنظمة الأوروبية مع أولئك الناشطين في إدلب تحدث الوفد أن المساعدات مخصصة لنوع واحد من أشكال معاناة المرأة وهو التعنيف. فكان على الناشطين أن يحصروا عدد النساء المعنّفات في منازلهن من قبل أزواجهن أو من قبل ذكور آخرين يمكن أن يمارسوا التعنيف كالأخ مثلًا... وفي هذه الحالة اقترحت المنظمة أن تنشئ دورات تدريبية أو ورشات عمل أو لقاءات أو ما شابه، لتدريب النساء على "عدم" الاستسلام للتعنيف وكيفية "مواجهته"! 

اقرأ/ي أيضًا: العدالة والتنمية وسياسات الهوية.. الطاعة أولًا

أوضح الناشطون أن المشاكل الكبيرة التي تعاني منها النساء خلال الحرب هي الناتجة عن ظروف الحرب والمواجهة مع النظام، ومنها إعالة أسرهن وأطفالهن وتأمين احتياجاتهم في الحدود الدنيا، إذ أن قضية التعنيف، على الأقل خلال الحرب غير مطروحة، فثمة عدد كبير من النساء فقدن أزواجهن ومعيلهن نهائيًا، الأمر الذي يعني، أيضًا، أن التعنيف، موضوعيًا، غير موجود الآن! لكن المنظمة أصرت أن هدفها هو البحث في التعنيف ومساعدة المعنّفات.

سياسة المنظمة غير الواقعية تلك، والتي بدت غريبة وخيالية في تلك الظروف، لم تأت من فراغ، فهي ناتجة عن واحدة من أكثر السياسات التي انتشرت في أوروبا وأمريكا في العقود الأخيرة (ثمة من يؤرخ لها ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، وثمة من يحددها ابتداء من سبعينياته. لكنها تعمقت وانتشرت وسادت مع بداية القرن الواحد والعشرين) وهي سياسات الهوية التي تُعرّف الشخص اعتمادًا على انتماءات عرقية أو دينية أو مذهبية أو جنسية "نساء" أو كتوجه جنسي "مثليون"، دون النظر إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي للفرد.

وبهذا تم خلق صراعات جديدة بين بني البشر لا علاقة لها بالصراع الاجتماعي الاقتصادي الذي نشأ، أصلًا، علم الاجتماع السياسي والدراسات الاجتماعية الأخرى انطلاقًا منه ولأجل حله. لم يعد الصراع، وفق سياسات الهوية، قائمًا بين من يملك ومن لا يملك، بين حاكم مستبد ومحكوم، لم يعد قائمًا انطلاقًا من خلل في توزيع الثروة وتركزها بيد عدد من الأثرياء، أو انطلاقًا من أن من يستفيد من معدلات النمو هم بعض المتنفذين اقتصاديًا وسياسيًا على حساب الآخرين... بل تركز الصراع بين إناث وذكور ضمن مفهوم النسوية (انطلاقًا من موجتها الثانية فيما بعد حركة حقوق المرأة)، وبين أعراق مختلفة داخل الشعب الواحد، وبين مذاهب دينية بعضها ضد بعض، وهكذا.

تحويل الصراع والتوجه الثقافي والسياسي من طابعه الأفقي بوصفه صراعًا اجتماعيًا (أو طبقيًا وفق صيغ الماركسية) ليتخذ شكلًا عموديًا في المجتمع: مدافعين عن البيئة مقابل غير مدافعين، أو غير معنيين، إناث مقابل ذكور، أكراد مقابل عرب، إلخ... هو نوع من حرف البوصلة الحادة للناس باتجاه غاياتهم وطموحاتهم، ونوع من حرف الصراع بمواجهة: الاستبداد، أو الفساد، أو الاستحواذ الرأسمالي على العالم نحو صراعات مفتعلة تهدف إلى حماية النظام الرأسمالي الذي أطبق على العالم تحت شعارات من الديموقراطية الليبرالية التي صنعت فوراق كبيرة في المستوى المعيشي بين الناس وأفقرت الكثيرين، حمايته من صراعات اجتماعية محتملة، وهو نوع من تفتيت المجتمعات وتذويب الصراعات الحقيقية التي تخوضها أو يمكن أن تخوضها.

فوكوياما، المفكر الأمريكي صاحب نظرية وكتاب "نهاية التاريخ" اعتبر أن صعود اليمين الشعبوي في أوروبا وأمريكا نتج أساسًا عن صعود سياسات الهوية. فاليسار العالمي خان جماهيره، إذ تحول تفكيره من المساواة الاقتصادية والتوزيع العادل للثروة وحفظ حقوق الطبقات المعدمة والفقيرة إلى تفكير من نوع: حقوق الأقليات العرقية والدينية والمثليين والبيئة... تاركًا حقوق الفقراء لقضاء الله وقدره! في هذه الأثناء تعالت صيحات هوياتية من نوع آخر: وهي الهوية القومية والدينية التي تبناها اليمين. وقد رأى العالم منذ فترة قريبة نجاح أحزاب يمينية شعبوية في الانتخابات الأوروبية، ووصول ترامب إلى البيت الأبيض... وكان ذلك تحت شعارات قومية.

على أهمية حقوق النساء، وكذلك حقوق المثليين، والمدافعين عن البيئة، إلا أنّ اتخاذ ذلك مبدأً متعاليًا يقصي الحقوق الأخرى ويذيبها ويفتتها

على أهمية حقوق النساء ونضالاتهن في سبيلها، وكذلك حقوق المثليين، والمدافعين عن البيئة وكافة الشرائح الاجتماعية التي تعتبر أن حقوقها مسلوبة ويجب الاعتراف بها ومساندتها، ووقوف كاتب هذه السطور إلى جانبها جميعًا بكل قوة ووعي وتصميم، إلا أنّ اتخاذ ذلك مبدأً متعاليًا يقصي الحقوق الأخرى ويذيبها ويفتتها تحت شعار: سياسات الهوية، هو ما يجب الحذر منه وعدم جعله مهيمنًا على حقوق البشر الأخرى، وهو ما يجب الانتباه له من قبل تلك الجماعات نفسها: "النسوية، المثلية..."، باعتبار أن هذا النوع من السياسات يهدف إلى الهيمنة والمزيد من الهيمنة على المجتمعات والأفراد، وإلى إعدام الحقوق الأخرى للناس. في القانون السويدي (2018) يتوجب على المرأة أن تعبر صراحة عن موافقتها على إقامة علاقة جنسية! وهذا مثال على التدخل المتطرف في حرية المرأة الشخصية وحتى في علاقتها الحميمة، تحت اسم: حماية النساء (كتعبير مخفف عن أنهن: ضلع قاصر).

اقرأ/ي أيضًا: عن أزمة الهوية الوطنية

لم يقتصر الأمر في تنفيذ سياسات الهوية هذه على أوقات الرخاء التي يشاع أنها متوفرة في بلدان مثل أوروبا والولايات المتحدة فحسب، بل امتد ليشمل الناس حتى في فترات الحروب حيث الموت يعيش معهم كما لو أنه ظلهم. ما حدث مع تلك المنظمة في إدلب حدث مرارًا في سوريا وسواها خلال الحروب... نتذكر إصرار ديمستورا، المبعوث السابق للأمم المتحدة إلى سوريا، على تشكيل وفد نسائي استشاري خلال المفاوضات بين المعارضة والنظام، وهذا يدخل في السياق ذاته من حيث أن المشكلة المزمنة بين النظام السوري وشعبه الذي ثار ضده لم تكن لأسباب تتعلق فقط بحقوق المرأة، بل بحقوق السوريين جميعًا. وقد قوبل الأمر لدى السوريين بالسخرية من جانب فأطلقوا تعبير "نساء ديمستورا" على وفده الخاص، ومن جانب آخر بالشعور بعدم الجدية في المفاوضات، إذ تم حرف البوصلة وكأن المشكلة هي فقط أن أحدًا ما يرفض تمثيل النساء في سوريا الجديدة، لذلك اعتبر ديمستورا أنه بهذا كان منحازًا لقضية المرأة. تعبير ديمستورا هذا كان ناتجًا بدوره عن مدى العمق الذي وصلت إليه سياسات الهوية في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، ومدى هيمنتها على الحقوق الاجتماعية والسياسية الأخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هؤلاء هم الأعداء

أكذوبة الأم العظيمة