13-أبريل-2023
من فيلم العطر

من فيلم العطر

هيمنة العين عليه تجعلنا نعيد تعريف الإنسان على نحو جديد: الإنسان كائن يرى كثيرًا، ويسمع أحيانًا، لكنه قلما يشم!

من هذه الخسارة الفادحة، أنظرُ إلى الكلاب الماشية مع أصحابها بكثير من الحسد، فهي لا تكتفي بالنظر من المشهد، بل تقترب منه وتشمه، وتلمسه بأخطامها ورؤوسها وأجسامها. وحين تشعر أنها امتلكته تضع توقيعها عليه بولًا.

تلك طريقة الكلاب التي لا يمكن الاستهانة بها. ومثلها حيوانات كثيرة لها مثل هذا وأكثر. وكلها مثيرة للإعجاب من حيث دخولها إلى العالم، أو إدخالها العالم إليها.

النظر على أهميته فيه شيء من النقمة علينا.

لكلّ بيت رائحة تعبّر عنه، يمكن أن تشمَّهَا في كلّ أفراد العائلة. وهذه الرائحة، وليس الدين أو القومية، وحدها من تستحق منا اعتبارها هويةً للمسكن والساكنين

بينما أكتب هذا الآن أتذكر كلامًا من سيرة المخرج السينمائي انغمار بيرغمان، التي عنونها بـ"المصباح السحري"، إذ قال عن منزل جدته وخادمتها لالا: "كان موقد الصالة يبعث رائحة خاصة به، هي مزيج من الفحم المحترق والمعدن الساخن، وعندما كانت لالا تحضر العشاء في المطبخ كان شذى الطعام يطفو بدفء في الشقة كلها. ويندمج باتحاد علوي مع الروائح الغامضة المنبعثة من الغرفة السرية. وكان السجاد يفوح برائحة النظافة وكرات النفتالين التي تخزن به عندما يُطوى في الصيف. وكانت لالا تقوم كل جمعة بتلميع الأرضية الخشبية بشمع النحل والتربنتين وسائل ذي عبير نفاذ، أما اللينوليوم فكانت تستخدم لتنظيفه مزيجًا من الحليب الفاسد والماء. وهكذا كان الناس يسيرون في الشقة وكأنهم وسط سمفونيات من الروائح، بالإضافة إلى روائح البودرة والعطور وصابون القطران والبول والجنس والعرق ومراهم الشعر والسعوط والطعام. بعض الأشخاص كانت لهم روائح بشرية، والبعض الآخر روائح تشعر بالخطر. فالعمة إيما كانت تضع شعرًا مستعارًا تلصقه على صلعتها بواسطة نوع خاص من الصمغ. فكانت تفوح منها رائحة الصمغ دائمًا. أما جدتي فكانت لها رائحة الغليسيرين وماء الورد. وأمي لها رائحة طيبة مثل الفانيليا. أما الرائحة المفضلة عندي فكانت لممرضة عرجاء، مكتنزة، ذات شعر أحمر. وكان أروع شيء في العالم أن أضع رأسي على ذراعها وأنام معها في سريرها، وأدفن رأسي في رداء نومها الخشن".

على سيرة هذا المقطع الذي يُشمّ أتذكر روائح البيوت التي عرفتها. فلكلّ بيت رائحة تعبّر عنه، يمكن أن تشمَّهَا في كلّ أفراد العائلة. وهذه الرائحة، وليس الدين أو القومية، وحدها من تستحق منا اعتبارها هويةً للمسكن والساكنين.

تعود روائح البيوت إلى الأمهات. نظنّ روائحيًّا أننا أمام مرجعين: الأم أو الأب.. يتغلب أحدهما فيفرض رائحته، لكن المنطق والرياضيات يقولان إننا أمام أمِّ كلٍّ منهما.

وفي النسبة الساحقة، تحقّق روائح الأمهات الحاليات سيادةً طاغيةً، بل إنها تجعل من روائح أمهات الآباء مجرد ملحقات بها، لا تقوى الأنوف المجردة على اشتمامها أحيانًا. وليس انتصار روائح الأمهات الحاليات هو خروجها من ثياب الأزواج، إنما من قدرتها على الهبوب من تحت جلودهم.

كأنّ قانونًا طبيعيًا يحكم هذا الصراع، كونه يُحسم تبعًا لعدد النساء، ففي حالة الزواج، نحن أمام امرأتين من جهة الزوجة في مقابل امرأة واحدة من جهة الزوج، ولهذا تتلوّن البيوت بروائح نسائها.

وفي بلادنا الحزينة، حيث تنتقل الفتاة من منزل أهلٍ إلى منزل أهل آخرين، سيكون صراع الأنوف صاخبًا وعنيفًا وجنونيًّا، لا ضمن حيز قوانين الطبيعة التي تنتصر فيها النساء، بل ضمن إطار سلطوي بين النساء أنفسهن، بين من ستصبح أمًّا ومن ستصبح جدةً، ولن تتغيّر هوية البيت ما لم تتمكّن الوافدة إليه من فرض توابلها في الطعام، وصابونها في الحمام والمطبخ.

تدخل بيوتنا تاريخًا جديدًا حين تأتي من تغيّر روائحها.

رائحة القهوة تعظم في العقل يومًا إثر يوم، وتتحول إلى ما يشبه أغنيةً ينشدها الأنف.

تشير علاقتنا الراسخة مع التوابل الى الطعم، لكن ما الذي دلّنا على ذلك الطعم؟ ما الذي جعل أول من وضعها في صحنه يفعل ذلك؟ إنه الأنف. الأنف فقط

القهوة تتكلم معنا فنسمعها من خلال أنوفنا. صحيح أننا نتذوقها عند الشرب، لكن هناك علاقة صميمة مع الشمّ مستقلة كليًا عن العلاقة المعروفة مع الفم واللسان.

الخبز يمتلك سحرًا روائحيًا، خصوصًا مع الخبز المرقوق الذي تعرفه بلدان شرق المتوسط، إذ يصدر رائحة عالية علو الصباح، ولا ينافسه في ذلك خبز الغرب الذي يأخذ شكل كتل، على أهمية رائحته.

تشير علاقتنا الراسخة مع التوابل الى الطعم، لكن ما الذي دلّنا على ذلك الطعم؟ ما الذي جعل أول من وضعها في صحنه يفعل ذلك؟ إنه الأنف. الأنف فقط. اشتمَّ فاشتعلتْ شهيته. وحين أضاف ذلك إلى مأكله إنما حاول ان يفعل شيئًا واحدًا هو أن يأكل الرائحة.

والجنس لا يقوم، ولا يمكنه، دون روائح. الحيوانات تقول لنا إن الأمر برمته يبدأ اشتمامًا. لا يبحث الحيوان المتهيج عن رائحة جميلة تلبي رغبته المشتعلة، إنما يبحث فيها عن مدى استعداد الآخر لاستقباله. لكأن الرائحة شكل من أشكال تحليل الدم.