12-يناير-2023
فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

ليس الحديث عن الألم مثل معايشته. وليس الشعور به مثل الكتابة عنه. ولأنه في جزء كبير منه عصيٌّ على الكلام والكتابة، سندرك سبب ميل كثير من المتألمين إلى الغناء. وبما أن الغناء يأتي عادةً من محفوظات الإنسان القديمة، فإن الألم يجعل من اللحن المصاحب جديدًا حينما يبدأ المتألم بتلوين صوته، بحسب ضراوة أوجاعه وحرارتها.

الألم حقيقيّ جدًّا، حقيقيّ لكنه مقصور على أناس محددين، فلا يعرفه مثل من يعيشه. إنه الحقيقة التي لا يؤمن بها سوى أحد اثنين؛ من وُضِعت كلُّ براهينها أمام عقله، أو من تجلّت في روحه مثل ضوء.

الألم هو التجربة الأشدّ ذاتيةً والأكثر خُلوًا من الغرور في الوجود. وعلى ما فيه من قسوةٍ لا ترحم لكنه في مقدمة من يُعلّم قلوبنا الرحمة

 

الألم هو التجربة الأشدّ ذاتيةً والأكثر خُلوًا من الغرور في الوجود. وعلى ما فيه من قسوةٍ لا ترحم لكنه في مقدمة من يُعلّم قلوبنا الرحمة. وعلى الرغم من كونه يبدو تهديدًا غير أنه التأكيد الأول على أننا أحياء.

طبيًّا، الألم علامة تحذير يطلقها الجسم ليخبرنا بوجود مشكلة، فنتعامل معه على أنه هو المشكلة. مسكين هو، لا يأت بهدف الأذى بل ليدفعنا لتجنب أذى موشك على الحدوث، ومن العجيب أنّنا نوسع في لومه وكرهه مع أنه الأكثر تأثيرًا وحسمًا في منح الحياة قيمتها ومعناها.

نقصره على المرضى المطروحين على أسرة المشافي، أو سجناء الرأي الذين يتعرّضون للتعذيب في ­­أقبية بلادنا. المفارقة أن خيالنا يحصره في الجانب الجسديّ، بين من يحملونه بينما يحاول المعالجون والأدوية أن يصنعوا لهم خلاصًا، وبين من يُنزّل على أجسادهم بقرار ليكون للدولة أن تشفى منهم، كما يفكّر القائمون على المؤسسات العقابية.

لكنّ للألم أنواعًا أخرى لا يرافقها صراخ أو أنين، ولا دم أو عرق أو قيء. وهي لا تقتصر على المرضى، ولا تعيش في غرف المشافي، وهي في وجهٍ غالبٍ عصيةٌ على التعافي. يحملها البشر جميعًا بدرجات وطرق مختلفة، بعدما جاءتهم من صدمات أو نكبات أو فقدانات حفرت في الأعماق. لكنّ تلك المعاناة التي تتخذ شكل النار الدائمة الاشتعال في داخلنا، وتظل عصية على الانطفاء، هي أكثر من يساعدنا على أن نفكر، بل هي من تعلمنا كيف نفكر، وتُشكّل لعيوننا منطقًا جديدًا لنرى الواقع بسببها كما لم نره من قبل.

تميز اللغة العربية بين الألم والوجع والعذاب وسواها من الكلمات المرتبطة بدلالات ذات العلاقة. وترى معاجمها أن الألم هو ما يلحقه الآخرون بنا، في حين أن الوجع هو ما نلحقه نحن بأنفسنا. وثمة فرق لغوي ومادي بين العذاب والألم يكمن، حسب العربية، في أن العذاب ألم مستمر. ومن أمثلة اللغويين أن جرح الإصبع ألم وليس عذابًا. وعندهم أنّ كل عذاب ألمٌ وليس كل ألم عذابًا.

ثمة قول بوذي راسخ يضع معادلة الألم النفسي في شكل حاسم: "لا يمكننا تجبّب الألم، لكنّ المعاناة خيار".

يكمن الفرق بين الألم والعذاب في اللغة العربية في أن العذاب ألم مستمر. ومن أمثلة اللغويين أن جرح الإصبع ألم وليس عذابًا. وعندهم أنّ كل عذاب ألمٌ وليس كل ألم عذابًا

لطالما شهدنا الألم بنوعيه الأبديين، وشعرنا به كما لو أننا نشارك حامليه تلك الأمراض أو الانكسارات الشخصية، لكنّ كتابات محمد أبو الغيط حول مرضه، التي نُشرت مؤخرًا في كتاب "أنا قادم أيها الضوء"، فعلت بنا فعلًا عجيبًا، إذ تعدّى الألم حيّز الوصف إلى درجة أننا انتقلنا إلى سرير المرض لنعيش مع الكاتب متاهته الوجودية. هناك كان علينا أن نعرف أن الألم أكبر من حجم اللغة، أوسع من مساحات الكلام، لأنه يقال بالعجز، وبتلك السوائل التي يقذفها جسدٌ يتلاشى، وبالحسرات التي تستمر في التدفق ما دام في الوجه فم قادر على الأنين.

لكنّ الكتب تفاجئنا بما لم نألف، فهذا رونالد نيدرمان شخصية استثنائية تظهر في سلسلة روايات ميلينيوم للكاتب السويدي ستيغ لارسن، وميزتها العجائبية أنها شخصية لا تشعر بالألم، ولذلك تصبح هزيمتها بالنسبة لبطلة الرواية أقرب إلى المستحيل. هذا غير أنَّ من لا يدرك الألم في نفسه لن يقدّره عند الآخرين أيضًا، ومن الطبيعي أن يغدو سفاحًا فتّاكًا.

صَنَعَنَا الألمُ. جعل أجسامنا تتطور عبر تاريخ نوعنا. جعلنا نتشارك الإحساس مع الحيوان. حفّزنا لنعمل ونبني ونحبّ. حمانا ولا يزال يحمينا. بسببه نتوقف عن الإمساك بما هو ساخن، ونغمض عيوننا في اللحظة المناسبة من اقتحام جسم غريب. وبسببه سعينا نحو العدالة، وسنظل نسعى، لأنّ هناك من ذاقوا آلامًا شيطانية لمجرد أنهم عبّروا عن رأي صادق، أو قالوا الحقيقة التي لا يجب أن تقال. وهو فوق ذلك كله اللغز الذي نحمله ونعيش معه ونعجز عن تفسيره.

إنه ضروريّ للبقاء. فمن نحن دون ألم؟