22-ديسمبر-2019

سامي بن عامر (فيسبوك)

من عرف وقرأ للشاعر البرتغاليّ فرناندو بيسوا يعلم جيّدًا أنّه لم يكتب يومًا بلغة الاختصار، أو كما يسمّونها اصطلاحًا في لغة الأدب "الشّذرة"، فقد كان يقول ساخرًا "لم يتراء لي البتة أنّه بين نقطتين أ وب كان الخطّ المستقيم أقصر الطرق". من هذا الاستشهاد بالذات، حول التوغّل عميقًا في الشعر/الفنّ، وحول التعدّد في الإبداعية، سنتحدّث عن الصخب الذي يشتغل به الرسام والأكاديمي التونسي سامي بن عامر في آثاره التجريديّة الشعريّة، حيث يقول "أواصل اليوم الإبحار في عناصر الكون لمزيد من الاستماع إلى سيمفونيته، بالاعتماد على طاقة الحركة ولمعان الألوان ولا جسمية الفضاءات. أليس الكون كامنا فينا؟".

يبحث سامي بن عامر في ممارسته التشكيليّة عن أماكن متغيّرة وخفيّة لتوزيع ألوانه وأكوانه

يبحث سامي بن عامر في ممارسته التشكيليّة عن أماكن متغيّرة وخفيّة لتوزيع ألوانه وأكوانه، فالفضاء والقماشة هما عبارة عن عالم يتناثر باستمرار وديناميكيّة بين ومن يديه، لذلك تتكدّس الدلالات والمعاني الوجوديّة بتراكم الصور التجريديّة المتراكبة، تلك التي تخاطب اللاوعي فينا أو "الروحانيّ العميق"، كما يحب هو أن يسميها تحت عناوين لوحاته أمثال "Globe3"/ كرة3، أوEnergie interne /"طاقة داخليّة"، أو plenitude/ "الأمتلاء"، أو sonorité/ رنين".

اقرأ/ي أيضًا: الفنّان العراقي علي رشيد.. في عتبة البياض وعلى حافة العتمة

وهكذا، فإنّ عدم التوازن في الظاهر في بعض الأحيان ليس سوى مرحلة من توازن أكثر دقة، قد تميزه نظرة ثاقبة وعميقة جدًا. يقول سامي بن عامر حول أهميّة الإدراك الروحانيّ للأشكال والألوان والفنّ عامة "بدون النصف الأيمن الذي هو في علاقة بالتفاعل الشعوري والروحاني تكون حركة العقل منقوصة، وبالتالي يكون إدراكنا للعالم مبتورًا".

تُمكننا عوالم سامي بن عامر من الاقتراب لجحيم يموج بالحركة ويصطبغ بالألوان. ذلك أنّ استخدامه للضوء/اللّون في الرسم له علاقة بموقع المصدر الضوئي بالنسبة للحجم الذي يعطي شكل الفراغ ويعطي تأثيراته النفسية من خلال التباينات المتدرجة أو المتناقضة ما بين الظل أو النور، "إنّها تنبثق من الألوان –يقول بن عامر- ومن تداخلات المواد العلامات التي تحيلني إلى الأحافير وإلى الفضاءات التّحت أرضيّة والكونيّة".

في نسيج تلك العلاقة، يكون اللون عنصرًا مكملًا يأخذ موقعه أيضًا من خلال التباينات والعلاقات اللونية، ومن معرفة الطول الموجيّ للون الذي يحدد بعده أو قربه عن عين المشاهد، فقد تكون هناك بقعة حمراء بعيدة في الفراغ، لكنها قريبة للعين أكثر من مساحة زرقاء قريبة في مقدمة السطح التشكيليّ.

توهم السطوح التي يشتغل عليها الفنّان بالفوضى، الشتات والتشظّي لأنّها مبنية على تواتر الأضداد وتعاقبها اللّونيّة والضوئيّة، فيتراءى ما تحجّب على السطح كحشود من الإيماءات المتراصّة بعضها يقود إلى البعض الآخر، كالأحلام المبعثرة التي تتراءى خارج نواميس الزّمن والواقع لتثبيته نهائيًّا داخل العمل الإبداعي، ذلك الذي يولد من الفوضى والتململ والاجتياح والانزياح غير المتوقّع، أو هو ذلك الواقع الآخر الذي يصفه سامي بن عامر بــ"الحقل الشاسع الذي يلتقي فيه الخارجي والداخلي، الأرض والسماء، بين الميكروكوسم والماكروكوسم، بين القديم والمعاصر، بين المتجلّي والميتافيزيقي، بين المادّي والروحي، بين المُتلف والإنشائيّ".

سامي بن عامر ليس تشكيليًّا فحسب بل هو أكاديميّ متمرّس أشرف على العديد من أطروحات الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون، وأدار وشارك في العديد من اللقاءات الثقافيّة والأكاديميّة وقدّم برامج إذاعيّة ثقافية مهمّة تُعنى بالفنّ التشكيلي التونسي والعالمي آخرها حصّته "في رحاب الفنون" بإذاعة تونس الثقافيّة. كما يحمل في رصيده العديد من المقالات والكتب النقديّة والعلميّة الموثّقة والمنشورة.

توهم السطوح التي يشتغل عليها الفنّان بالفوضى، الشتات والتشظّي لأنّها مبنية على تواتر الأضداد وتعاقبها اللّونيّة والضوئيّة

أما ما يحسب لسامي بن عامر بشدّة هو مبادرته الأخيرة والاستثنائية في تنظيم ندوة علمية دولية حول تاريخ الفنون التشكيلية في تونس بعنوان "تاريخ الفنون التشكيلية في تونس: مسيرة أجيال ورهانات إستيطيقية وثقافية"، وذلك تحت إشراف جامعة تونس للتعليم العالي بالشراكة مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وقد امتدت الندوة على ثلاثة أيام من 24 إلى 26 تشرين الأول/أكتوبر 2019 بمدينة العلوم، وتضمّنت أكثر من خمسين مداخلة علمية ونقديّة وشهادات مباشرة حول تاريخ الفن التشكيلي التونسيّ وجمعت ثلّة من الأكاديميين والنقّاد التونسيّين والأجانب.

اقرأ/ي أيضًا: ريم العيّاري.. انتصار الفنّ لأجل الفنّ

وقد سعى الفنّان إلى توثيق الندوة في كتاب من الحجم الكبير سيكون الأوّل من نوعه في تونس من حيث تأريخ الحركة التشكيليّة التونسيّة منذ الثلاثينات إلى مختلف أشكال وتجليّات الفنّ الحديث والمعاصر، هذا وسيصدر الكتاب في شهر آذار/مارس المقبل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التونسية منى الجمل.. الهامشيّ بعدسة فينوس

محمد بن مفتاح.. إحياء ملحمة البعث الآدميّة