15-ديسمبر-2019

الفنان العراقي علي رشيد

عزم الفنّان العراقي المغترب علي رشيد، منذ ما يزيد عن ثلاثين عامًا، أن يكون رسّامًا لا غير، فهو يعتبر تسمية "فنّان" مسؤوليّة مقدّسة لا يستحقها أيًّا كان. يسمّي نفسه مبتدئًا في عالم الإبداع، وطفلًا يتعلّم خطوات جديدة كلّ يوم.

يصرّ الفنان العراقي علي رشيد على أن يكون غامضًا في أعماله عبر رفض توقيعها وعنونتها

يصرّ علي رشيد على أن يكون غامضًا في أعماله عبر رفض توقيعها وعنونتها، ويحبّذ أن يخترق شساعة هذا الكون ببياضه أو كما يقول "دع البياض يستقيم". يُشبّه رشيد بياضه التشكيليّ بــ'النور"، ذلك البريق الذي تحدّث عنه الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو في رواياته ووصفه بــ"النور المقيت"، "فكم من الصعب أن تكون مبصرًا في مدينة العميان".

اقرأ/ي أيضًا: معرض "انتفاضة" في بيروت.. الفن في الساحة

لم يعرف علي رشيد عملًا سوى كونه رسامًا، الأمر الذي جعله غيورًا بشدة على الفنّ، كما ليس له مشروع غير الاستمرار في أن يكون ذاته، تلك الذات التي يعيب الكثيرون عليه كونها حزينة ومعتمة. يحترم واقعيّة هذا الزمان، لذلك يقدّم أعمالًا ونصوصًا وليدة زمانها تعكس أحزان وآلام هذا العالم، فــ"ما دامت الهزائم حديث الساعة فمن الطبيعيّ أن يستفيد منها اللّه"، ثم إنّ الفنّان هو ذلك الذي يحتمي بالإبداع ليقول ما يخفيه الواقع/ واقعنا، أو كما يصفه الكاتب المغربي مبارك ربيع في روايته "أهل البياض" بالبركة الآسنة التي "يتجمع فيهـا التعدي والاغتصاب والتواكل والخرافة والشعوذة والشـطط والاسـتغلال والتواطؤ والخوف، ويُحـلّ الاستسلام للقضاء والقدر في ذروة هذه الخصال".

هذا الرسّام الشاعر الزاهد في الألوان، يريد أن يثبت أنّ الحضور التشكيليّ يجب أن يكون قويًّا بدون بهرج أو زينة أو فرجويّة. يؤكّد أنّ نظام العالم ليس سوى نتيجة منظور نقوم بتجريده لإسناده لاحقًا إلى المطلق، إلى النور الوهميّ وإلى نقطة العمى الجماعيّة، لذلك يفضّل أن "يسود البياض" لأنّه النور الوحيد الحقيقيّ.

يقول علي رشيد "كنت في الماضي أحكي الحكايات بأكملها عبر استعمال الأحبار والألوان المختلفة، ولكن بفعل النضوج توصلت إلى اختصار الحكايات في اختزال الرسم وترك الآخر يقرأ حكايته الخاصة. تحوّلت إلى التجريد ووجدت في الأبيض فسحتي اللاّمحدودة للمعرفة ومتنفسًا لقول كلّ شيء. تكمن عظمة الفنّ في "الاختصار" المطلق، في الزمن ذاته، في الحدث وفي التاريخ بكلمتين فقط. هناك من يتحدّث في سبع مجلّدات عن سقوط طفل، بينما هناك من يتكلّم عن حياة بأسرها في كلمة أو إشارة"، يقترب في ذلك مع فلسفة نيتشه للحياة وهو القائل "إن هدفي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب.. ما لا يقوله في كتاب بأكمله".

الفنان علي رشيد: "تحوّلت إلى التجريد ووجدت في الأبيض فسحتي اللاّمحدودة للمعرفة ومتنفسًا لقول كلّ شيء"

يكمن الخلاص/ العذاب لدى علي رشيد في الرسم على عتبات "الأبيض". يراوح الفنّان بين المحو واللمسات الشفّافة والعجينة المعتّمة ويقدّم قلقه الوجودي الذي يسوّر حياته/حياتنا ببياض يمتدّد إلى ما لا نهاية. يتوغّل عميقا في عبثية الحياة ويلخّص مآسينا في هجائه "المبيّض" الفلسفي/الشّعري. يقدّم لنا "الأبيض" روعة سحر الأحجيّة اللاّشكليّة، ينصب لنا شرك الصورة الجماليّة الصافية أو الشفافة، في حين أنّه ملغّز بحكايات الماضي التراجيديّة "المبقّعة".

اقرأ/ي أيضًا: حوار| بسام أبو ذياب: أستوحي من الطقوس الدينية تعابير جسدية للرقص المعاصر

يستعمل علي رشيد الأبيض ليتحيّل على البصر، وليقدّم دعوة للاستمرار في النظر جيّدًا. يحيلنا إلى كلّ الاستدلالات الزائفة التي تقبع وراء "الستائر" تلك التي تخفي الأسرار وتمنع الحقيقة. ليس الأبيض مادة، إنّه الفكرة الكامنة في كل الواقعيّة الزائفة. لا يمثّل البياض للفنّان تمثيليّة النقاء والملاك إنّما يتعرّى في دلالة الحساسيّة المفرطة إزاء أوساخ هذا العالم.

يعتبر علي رشيد أنّ بياض آثاره إنّما هو القوّة في جانبها الأشدّ مأساويّة والأكثر ّفتنة، هو خطاب بصريّ متلبّس بكلّ تناقضات العالم جماليًّا، وهو أيضًا كيان جماليّ "ضعيف" بحساسيّته أمام تغيرات من وما حوله. يؤكّد أنّ البياض هو "الروح التي تسكنه" تلك التي تعيش متناقضات الحياة بكل تلقائيّة ومستعدّة للمغامرة بكلّ شيء. تذكّرنا لوحاته بــ"قصائد الشاعر سعدي يوسف، حيث تصير الجمل قصيرة والصور مباغتة والكلمات تنضح بالغياب.

قليلة هي الأسماء العربية مثل علي رشيد، التي نجحت في التعامل مع المادة واللون إلى هذه الدرجة، التي تجعل من العمل الفني يشبه التلاشي، ويعطي للمشاهد صفة الحضور والغياب في آن واحد".

حين نتحدّث عن "الأبيض" فنحن ندخل في منطقة غير محدّدة الملامح: منطقة تتراوح بين النصوع والتلطيخ، الشفافيّة والعتمة، الحقيقة والمغالطات، العفّة والطهر، النقاء والتعفّن. لا يمكن الوثوق في الأبيض فهو الشيء الذي سيحرجنا في أوقاتنا العصيبة: في لحظة الولادة أو الموت، تلك "البلاغة العمياء" كما يسميها علي رشيد أو "القبور" التي شاهدها وكانت "بلا أسماء، أو شواهد، كانت بلا موتى".

نسينا أن نقول أن رسامنا لطالما كان شاعرًا، والشاعر حسب إميل سيروان هو "ماكر يستطيع أن يتلوّى من البرد إلى حدّ المتعة. أن يجِدَّ في مطاردة الحيرة وأن يحصل عليها بكلّ الوسائل. ثمّ تأتي الأبديّة الساذجة في ما بعد فترثي لحاله". يجِدّ فنّاننا في البحث عن حقيقة البياض الذي يتلبّسه، فيحدّثنا عن الندوب التي يراها من خلال شقوق غائرة في فضاءاته المرسومة. يحتمي علي رشيد من الفراغ بالبياض، والبياض بالنسبة إليه "ثقيل"، "معتّق"، "مشروخ"، "مترنّح"، "متعثّر"، "مترنّم"، "منهك"، "خطّاء"، "شهوانيّ"، حكيم".. كلّ ذلك في "خرائط مدبوغة بالذعر"، أين يستولي الفراغ على المخيّلة ويتحوّل إلى بياض يرثى العالم ويندب السماء.

بالنسبة للفنان علي رشيد، ليس الأبيض مادة، إنّه الفكرة الكامنة في كل الواقعيّة الزائفة

يقرّ علي رشيد أن النص الذي يكتبه والآخر المرسوم شيئان غير منفصلين، لذلك يُرفق أعماله التصويريّة بنصوص شعريّة ونثريّة. يرسم ببياضه الغابات والنساء والمآتم والقبور، ويتحدّث باستمرار عن اغتراب العالم عن العالم وأنّه "ابن زمانه" المشروخ. يصف "الأبيض" بــ"الشذرة" البصريّة الفتّاكة لأنّه يتعمّد الاتكال على تقنية "المَحْوُ" الذي يصاحب مادّته البيضاء. يعيدنا علي رشيد إلى المتضادات الفكريّة التي يحملها الفنّ التجريديّ: بين التشخيص بوصفه "المحاكاة الشيطانيّة" والتجريد بكونه "المكفّر" المحتال.

اقرأ/ي أيضًا: فوتوغرافيا جبال لبنان.. جبال أطلس: الصورة مرافعة بصرية لأجل البيئة

يطرح فنّانا أسئلته الغيبيّة ويجيب عنها بمرارة المكلوم. يستعير كل بياضات العوالم  المرئيّة ليرسم ما يراه هو في كل مكان ولا مكان: بياض الكفن والسّدار والعمى والفرح والجريمة والغيوم. خلف كل بياض تعيش حقيقة مختلفة وغير متوقّعة، واحتمال الفجيعة أكثر بكثير من الغبطة. هو لا يلوذ بذاته هربًا من الواقع أو تخلّصًا من كوابيسه، بل هو يفعل ذلك عن وعي بما يحمله لنا بياضه من دهشة:            

"دهشة لا تراوح عزلتها

غيبة لا تلوي خديعة المكان

والوقت خرافة

تنهش غسق الكلام

يسعل الفجر،

هل انحنت هامة في ظلال اليقين؟

هل استرسل النائم في هذيان أبيض؟" (ذاكرة الصهيل، دار نينوى للنشر 2003، ص 8)

يصرّ علي رشيد أن الاختصار في الرسم والشعر هو سلاحه الفعّال وسط ثرثرة الكثيرين الفارغة، يذكّرنا بتوجّهات الكاتب الروماني إميل سيوران الذي يقول "أحلم بعالم نموت فيه من أجل فاصلة"، ذلك العالم نفسه الذي توغّل فيه رشيد عميقًا ليحاول نزع ستائر الماضي والحاضر وتقديم وَسَاوِسَهُ متلحّفة بقطن الآلام البشريّة. يعي جيّدا أنّ كل قلق فردي مردُّه في آخر المطاف إلى قلق كونيّ، لذلك يرسم ليتكشّف على الموت أو ليموت على طريقته ويعبث بفلسفة الألوان والأشكال، "آخذًا من الشعر والموسيقى جوهرهما المشترك: الومضة والإشراق" شأنه في ذلك شأن إميل سيوران.

تتحوّل اللّيالي البيضاء المترّعة بالأرق والقلق إلى مرادف للإبداع وسبب للمعرفة، ويصبح بياض الغيوم حمّال النحيب السماويّ. تُنبؤ الياضات بالبدايات التعيسة والنهايات المعلّقة، برسائل لم تكتب وغياب مطوّل وانتظارات لانهائيّة. يَحْملنا البياض إلى كلّ الوعود المخلوفة والخلافات الغير محسومة، إلى مسودّات العالم وتواقيع الجبناء والمتحيلين على شيكات الحياة "البيضاء"، "ألا نتعلّم في ليلة بيضاء واحدة ما قد لا نتعلّمه في سنة كاملة من النوم؟".

يحيلنا الرسم عند علي رشيد، مجازًا، إلى "السموم البيضاء"، إلى تناقضها الفجّ بين الحلاوة والملوحة، بين ما ننتظره من الحياة وما يمكن أن تقدمه لنا على حين غرّة. رسوماته قائمة على التنافر والفرار والتكثيف في المعنى، في كل الاتجاهات بخفة وثبات، لا الأشكال المتأنّية الواضحة والتشخيصيّة، وهذه مميزات الرسم الاختزاليّ الذي يتقنه ويطلبه علي رشيد دون سواه. هو يُمعن في السخرية من هذا الوجود ومن العدمية، وهو لا يعبّر عنها بنوع من التشاؤم والسّوداوية، كحال العدميين، بل هو يعبّر عنها بالحفر عميقا في البياض الذي يزدري الأزمنة الوهميّة ويكشف اختلال الواقع الذي يُذَوًّبُ بالأزمنة ويتلاشى كالسحر، تماما كبياض "الملح" أو "السكّر" كلاهما ناصع ولكنّه يحمل "السواد"، ألسنا من نسميهما بالسمّ الأسود.

يَهْوِي علي رشيد، في رسوماته بريشته المتخمة بالأبيض من دون تردّد أو "شفقة" على كلّ الأشكال والألوان وعلى كلّ اليقينيّات والمسّلمات التي نخالها نهائية ونستأنس، لا في الرسم وحده بل في الفلسفة وفي الشّعر، في الأدب، في الأديان وفي التّصوّف، في الموسيقى والسينما. وقد كتب صالح الرزوق حول التكتّم والاختزال الذي ينتهجه فناننا في الرسم فيقول: "أعتقد أن علي رشيد لم يُهمل مسألة الرموز والصور تمامًا لكنه أحاطها بالكتمان. مثلما أن ألوانه متدرجة بالعمق والحجم، وتتناثر على خلفية متدرجة أيضًا بسماكة الطلاء، أضاف بعض الأطياف، وهي بمعظمها خيالات لفكرة تتشكل، أو جنين كائن أولي يمرّ بمرحلة من مراحل تطوره"، يعمد علي رشيد إلى استعارة كلّ رمز ممكن من الواقع عبر رسم آثار ممتدّة وقادرة على الوصول إلى نقطة غير مرئيّة. يستبدل المعنى الصوفيّ للون الأبيض بصفته لون "النفس المطمئنّة" بدلالة أخرى تعانق كلّ الأرواح اللئيمة منها والملهمة. يختزل كلّ الألوان في الأبيض لأنّه النور الذي يسمح بالرؤية الحقّ، يضيف إليه غالبًا بعض الشروخ السوداء والرماديّة علّه يأخذنا إلى طرق للنظر بعمق في الظلام والعتمة، أو مثل الحجارة السوداء التي "كانت مقدّسة للرّبة القمريّة، عشتار. ولذا فإنّ اكتحال النساء بنثار الإثمد كان نوعا من الصلاة لربّة القمر بأن تلهمهنّ بُعد الرؤيا، "البصيرة" العراّفة".

صالح الرزوق: "أعتقد أن علي رشيد لم يُهمل مسألة الرموز والصور تمامًا لكنه أحاطها بالكتمان"

اقرأ/ي أيضًا: معرض شوقي يوسف.. مسلخ بمزاج قاتم

يبدو علي رشيد إذًا، سيّد المفارقات التصويريّة عبر استعمال الصورة والكلمة للدلالة على الشيء وضدّه. هو يصنع حيلًا شعريّة ترافق الصورة "البيضاء" للإحالة بالمعنى إلى مواطن دلاليّة أكبر. نرى الخدوش تغطي القماش غير الملوّن لينحت تراكيب بصريّة ودلاليّة متنافرة، ففي استعماله للشطب الحاد علامة دالّة على آثار الجرح والندبة أين يُغني "الجزئيّ" عن "الكليّ"، "الشاهد الذي قد تكون ميزته الأساسيّة في تغييب الغائب"، ونحن إذ نصل بالمعنى إلى أقصاه، فإنّنا نصبح أمام "السواد" ذلك الفراغ المطلق والمخيف، وشتّان بين "نقطة ضوء" وجرف/ ثقب أسود.

وذلك باب آخر يمكن أن يفتح على جهنّم مثلما يمكن أن يحمل لنا الخلاص.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معرض جنان مكي باشو.. الهجرة التي لن تنتهي

الفنانة ديالا برصلي.. طائرة ورقية لأطفال يصنعون السماء