24-فبراير-2021

الروائية مُنية الفرجاني

مِن الموت تنطلقُ الحياة، على حسبِ ما أعدّته مُنية الفرجاني في إشراقة روايتها "ونيسْ" (دار الأمينة 2020)، وهي مُحقَّة لو أمعَنا النّظر في قولها، فالإنسان والكون عامةً كانا في عالم العدم. لا شيء سيشغلُ القارئ سوى العثور على وْنيسْ، مَن هو، ولماذا وْنيسْ؟ لماذا ليس أنيس الاسم الأكثر تداولًا إن كان فَرضًا أنّه أحدُ الشخوص؟

تقول مُنية الفرجاني في روايتها "ونيس": "هنالك نساء وهنالك نساء ونصف! النساء دون نصف هنّ مَن يتعرّضن للعنف أكيد"

لا أثَر له حتى تطلّ صالحة، خالة الراوي الذي لم يتّضحْ بعد إن كان هو الراوي المُتخفي أم الراوي البطل؟ وفي هذه الجُملة الطويلة يندرج وْنيسْ للمرّة الأولى: "لم أستوعبْ بعد كيف لونيس أن يكون معي في هذه اللحظات بالذّات بعد أن توهمتُ أنّي فقدته إلى الأبد"، فيزداد تأكدنا أنّه إنسان، نُدرك أنّه كائن من صوت يسكن جسم المتكلّم، ثم ما نلبثُ أن يتغيّر فهمنا إلى أنّه زوج البطلة المتوفي الذي سكنتْ روحه البيت. البيت المرفوع في مدينة جربة التونسية أين تدور بعض الأحداث.

اقرأ/ي أيضًا: روجيه غرينييه.. في قصر الكتب

وفي مطلعِ الفصل المُعَنون بمقولة الأديبة رضوى عاشور نكتشف مجدّدًا أنّ لونيس معدنًا ذهبيًا وآخر ما يُلبس فوق رأس العروس؛ لتُعرض جمالها لأوّل مرّة أمام الحاضرات. تسردُ لنا الروائية البطلة طقوس العرس في جربة، فمن المخفق أن تكون أم العروس أشد سُمرة من العروس، ولذلك هما مدفوعتان لمعركة حرّة مع الجلد نكاية في أعين الصديقات والحُسّاد. غرام الابنة الصغيرة الوحيدة للبطلة، تمشط شعر أمّها بعد خروجها من الحمام بشق الأنفس، الأم فكرّت في قصّهِ عند الحلّاقة؛ لأنّها لم تعدْ قادرة على رفع ذراعها لتقوم بمشطه بنفسها، كتلة سرطانية تتكوم في صدرها، ثلاثة أعوام غير كافية لتقنع نفسها بالإصابة، عملت البطلة في محلٍ لبيع لُعب الأطفال وفيه تعرّفت على زوجها الذي جاء –ذات يوم- مع ابن اخته ليشتري له هديّة، ثمّ عاد في اليوم التالي وحده.

في تونس العاصمة لمّا أخذتْ غرام إلى طبيب العيون شاهدتْ نسوة مُورس عليهن العنف أشكالًا، تقول خلال النص: "هنالك نساء وهنالك نساء ونصف! النساء دون نصف هنّ مَن يتعرّضن للعنف أكيد". فأي نصف تقصده يا ترى؟. وْنيسْ الزوج أصبعه مقطوع، فقدَه عندما كان يعمل مساعدًا في ورشة النجارة مع أبيه، عذّبته آلين فوَشَم الحرف الأوّل من اسمها "A" ليموت شهيدًا في حبّها كما قال، عانت البطلة مع وْنيسْ وِيلات القهر، الصفع، الصمت القاسي والطويل، تعِبت من محاولات تلطيف جو البيت والأسرة، رجُلٌ من جبس وكلس كما وصفَتْه، ها هي البطلة تعلن عن اسمها ناهد، وإنّا لنجد في الاسم دِلالة على النهد المُسرطن، تزور ناهد الطبيب لعلّه يجد لها علاجًا، فهي تشعر بحمل ثقلٍ على كتفها ورقبتها، وبين كاهلها كأنها حزمة تبن، سألها الطبيب عن ماهية الشيء الذي يمكن أن يخرجها مِن حالة الاختناق فقالت "قُبلة" فكتبَها على الوصفة، ناهد تعاني الإهمال من وْنيسْ الذي لم يَفِقْ بمرضها، ولم يلاحظ الورم، لأن النهد لم يكن يعنيه، تمنّت لو تحوّلت أخطبوطًا فتحضن نفسها بأذرعها والأخطبوط لا ثدي لها، وله ثلاثة قلوب تحتاجها ناهد كلّها حتّى تدخّر قلبًا لغرام ابنتها، لكي يحتويها بعد الموت. غرفة غرام تحوّلت إلى مكتب الدكتور يسري كما سمّته ناهد، لأنها أصبحت تتعالج بالكلمات كلمّا احتاجت العلاج..

"رجُلٌ لا يتحسس نهد أنثاه لثمان سنوات، لا ينتبه لألمها، لشحوبها، لنقصها، لخوائها، لفنائها، لاحتراقها، لانطفائها، لتلاشيها... ماذا يمكن للعُمر أن يُسمّيه، رَجُلًا؟".

بموت أم غرام نلاحظ تناوبًا على السرد، إحدى عشرة سنة كانت كافية لتصنع ناهد من غرام نسخة منها، تحكي عنها يوم أن دخلتْ عليها الغرفة فجأة:

"هل تُخفين عني شيئًا يا ماما"؟

"مثل ماذا؟"

"تُخفين صديقًا في الخزانة أو تحت السرير. تكلّمينه كلّما أحسستِ بالضجر".

وبالبحث عن عيادة الدكتور التومي، بعد أن عثرتْ الخالة صالحة على ظرفٍ يحوي ملف في مكتب البيت، صرّحت غرام باسم حبيبة بن غربال المتوفية منذ عقد وست سنوات، لعلّها تجد في أرشيف العيادة سبب موتها، مشاعر غرام هاجتْ على أبيها فوصفته بالجبروت والقاسي والبخيل. قال الطبيب إنَّ موتها غريبًا، سبع سنوات وهو نائم إلى جنبها دون أن يشعر بشيء تغيّر. "ألا ترى أن في الأمر سرًا.. ألا ترى أنّ في الأمر شيئًا من الغيب. هل تذكر حين كنتَ تقول بأنّ خيالها قتلها. وفي الصورة المعلّقة كانت تتسأل عن وْنيسْ، هل هو القرط، هل هو العقد؟ ما أكثر الأصفار حولك يا أمي".

عملت منية الفرجاني في روايتها "وْنيسْ" لتجعل من هذا الاسم رمزًا للوحشة في حياة المرأة الوحيدة والمحرومة

وظّفتْ الروائية وْنيسْ كرمز تستدلُّ به على الوحشةِ في حياة المرأة الأرملة، والمرأة المحرومة مِن الأنس بالعشير الحي بجانبها بإتقان ودراية. تعثرُ على الونيس عند مجوهراتي، إذ يقول: "هذا هو الونيس يا مدام إنه مِن القطع النادرة فعلًا وكل الذي ترينه في محلات وواجهات بيع الذهب هي قطع باعها أصحابها وليست مصوغًا حديث الصنع. الونيس نادر وهو متوارث بين الأجيال".

استغربَ الصياغ حينما رآها تقلّد نفسها الونيس بطريقة خالفت المعتاد وهي تهمس: "هذا صوت صدري الجديد. صوت حياتي القادمة".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "قلب الملاك الآلي".. الرحم هو القلب الثاني

وْنيسْ كان الشرارة الأولى لكتابة الرواية "هلْ للموتى روايات تُكتب أم الكتابة موت يُروى".

النصُّ جميلٌ مؤلفته متمكّنة من أدواتها، أدَارت الأحداث بلغةٍ بسيطة، متماسكة الألفاظ، مفهومة المعاني، صائبة الأهداف، لكنّها مؤلمة جدًا.

تَميل مُنية إلى استعمال الجناس وكأنها قارئة للأشعار، ممّا أضفى نكهة بديعية، فنجدُ مثلًا قولها: لقد تركت المرحومة المحرومة. الاختراق العظيم، الاحتراق الأعظم. إنني في مسقط الروح أروح، أن تمرّ من أمام معهد عاهدته. فاتني الأوان والأمان.

وهذه بعض الاقتباسات لها انعكاسات داعمة جدًا للموضوع المُعالج:

"نحن النساء. مسكينات."

"من حلاوتنا احترق فينا السكّر حدّ الموت".

"الحبُّ وحده لا يكفي، إنَّه السَطر القليل مِن الحكاية، نزوة بحجم زهرة بابونج صغيرة في حقل لزراعة الأمراض".

" المرأة تعطي إلى آخر رمق".

الرجُلُ يموتُ من أوَّل شتيمة تبدأ بـ ماكش".

وكخُلاصة وليس ملخَّصًا؛ الرواية في غاية الحُسن، مؤنسة المجلس، خفيفة الإيقاع، تستحق الدِراسة والقراءة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "حليب سوفييتي".. وجه آخر للحكاية

رواية "دفاتر فارهو".. أي معنى للنجاة؟