05-فبراير-2021

الكاتبة ربيعة جلطي وروايتها

"أنا لم أصرخْ. كُنتُ مبهورة بهذا الشيء الذي أصبحتُ جزءًا منه. إنَّها حالة الكينونة. أنا كائنٌ آليٌّ حي". هكذا تكلّمت مانويلا، في رواية "قلب الملاك الآلي" (منشورات ضفاف 2019) للكاتبة ربيعة جلطي، حينما أنهى صناعتها فريق البحث بمركز كونسيونس روبوتيكس. والمُلاحظ أنها تكلّمت بإرادة العقل، لأنَّ الفريقَ كان لا يزال مُختلفًا في تزويدها بالقلبِ كقطعة آليَّة تسمحُ لها بالإحساس بالبشر المخلوقين والكائنات والعالَم من جهة، والرَّحم كوِعاء يُمكِّنها من التناسل وقضاء الوطر من جهة أخرى، أيّهما سيختار الفريق القلب أمِ الرّحم؟

الروبورت مانويلا أنثى ساحرة لا تشوبها شائبة أمام صانعيها وأمام الناظرين إليها

القلبُ سيوقعها في الحبِّ وقد صُنِعتْ للقيام بمهمّة، وقد يعيق الحبُّ مهمّتها، ومَن وصلَ إلى القلبِ من جِنس البشر فإنّه -لا محالة- لواصلٌ للرَّحم ولو من بعد حين. ظلَّ الاختلاف قائمًا، لكنَّ الدكتورة اسيان تدمج القلب والرحم معًا في جسد مانويلا ومن ثمَّة يستحيل إرجاعها لعالم العَدم. الروبورت مُطالب بإنجاز المهمّة الموكَلة له. كما سيراها ويعيشها ويُجرِّبها.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة ربيعة جلطي

مانويلا مِن صنيع البشر، وهي أنثى ساحرة لا تشوبها شائبة أمام صانعيها وأمام الناظرين إليها، والروبورت مصطلح غير عربي يُمكن إطلاقه على الذكر والأنثى، ومن هنا نتعرَّف على واحدة من شخوص الرواية ألا وهي مانويلا الروبورت، أو مانويلا 1؛ لأن مانويلا 2 ما زالتْ قيد الاختراع ويتطلّبُ البحث سنينًا طوالًا، حتّى تُضمن السلامة في حالة ما تمَّ إخصابٌ بين البشر المخلوق والبشر المصنوع.

أخالُ أن هذه العبارة ردّدَها القراء مثلي- ولو مرَّة- لمَّا كانوا بصدد المتن "على الرغم من نقاشهم الحاد يظلُّ العلماء يرفعون العقل فوق كلِّ خلاف". فهل ترتَفع عقولنا قليلًا حينما نقرأ الرواية، التي يراها المخالفون أو الرافضون للآخرِ مَضيعةً للوقت؟

الروائي والشاعر والمُخرج هؤلاء عُلماء في اختصاصاتهم، يُغالبون فنّهم ليُقدِّموه لنا في أبهى حُلَّة، ونحن أمام هذا النص الجانح إلى الخيال العلمي، أمام عالِمة بخبايا وأُسس صناعة الرواية، دعنا منها الآن وهيَّا بِنا لنغطس في النص.

نجدهُ حرٌّ حرِّية مانويلا، فلا حدود للمكان ولا الزمن فيه، تُصرِّح مانويلا قائلة مرَّة: "أنا من خارطة العالَم" ومرَّة أخرى "لم أُخلق للموت فأنا من خارج الزمن".

تبدأ رحلتها إلى العراق حيث البردادي يوهم الناس أنَّه خليفة اللَّه حينما عَلِم بنزولها على الأرض، وهنا إشارة ذكيّة بأنّه لولا شبكة النّت لما استقطب أهل التطرُّف العديد مِن الرؤوس الفارغة، إذْ كان بالإمكان التصدي للإجرام في مهده، لكن استفحال الظاهرة مِن ورائها غاية القوى العُظمى التي لم تبلغ مقاصدها بعد.

ينبَهر البردادي بخِلقة مانويلا فتسحَره وتأخذ قلبه - إن كان له قلب- الذي يشتعل وينطفئ حسب المزاج، يُصرّح لها بأنه في اتصالٍ مباشرٍ مع اللَّه، ويترجَّاها أن تكون أم الأمير المُنتظَر الذي سيُلحق الدنيا بالمقام البردادي وبالدولة الإيمانية الكونية.

كان بالإمكان أن تسمّي الروائية هذه الشخصية الأخيرة بالبغدادي صراحةً، لكنّها قرَّبت الرؤيا وتركتْ للقارئ حُريَّة التأويل والتسخين والتبريد.

نتعرَّف على عمَّار الباتر، الذي يبتر الرؤوس والأيدي ويُنكِّل بالجُثث، وهو القائم على شؤون البردادي في العاصمة المؤقتة للدولة الإيمانية الكونية، وفي سقيفة أسامة التي يسترخي فيها الخليفة، وسُميّت السقيفة كذلك، تبرُّكًا بأسامة بن لادن. يصفِّف عمَّار النساء كلّ خميس للخليفة بحزم، ومن بينهن مانويلا التي لم يستطع أن يتماسك أمام سحرها، لكن الخليفة هو أول مَن يتذوّق النِّعم والخيرات والمُتع التي تُسترَد من بلاد الكُفّار الذين يملكونها بدون حقٍّ إلهي.

نتعرف على القائدة قمرة، والقمر المنير يكشفُ عن الإبَرِ في جنح الظلام، امرأة خشِنة الطِباع، مثلية الجنس، تختار للخليفة ما تشتهيه نفسها، وتشعر بسلطةٍ رمزية لقُربها منه، وهي أقربُ له كذلك من حارس المنبر المُذهَّب.

حدَّابة بنتُ عمر صاحبة الحمام تُحمِّم النساء قبل ذهابهن للخليفة. حدَّة آل ميمون اليهودية، سارة إحدى الشابات العربيات من جنسية فرنسية، عبد السلام شاب مسلم قدِم إلى إسبانيا من بلاد المغرب الكبير، فيكتور حارس المزرعة الوفي، عثمان المحاسب، خضرة صاحبة الخيال الخصب، ميلود الذي فجَّر حزامه في محطَّة البنزين وسط مدينة باريس وأقاموا له حفلًا دينيًا رمزيًا توديعًا له نحو حوريات الجنّة، السيدة نيكول بوكاج وكلبها سقراط المختار الذي يصل إلى دولةٍ أقصى الجنوب الجزائري؛ ليُقيم دولة في دولة، محجوبة التي أوصتها الحاجة يزَّة بالبكم وقد جيءَ بها من المغرب لخدمة مانويلا.. كلُّ هؤلاء تراصُّوا في خط سردي ماتع بينهم مسافة راحة، لا رغبة للمتلقي فيها؛ لأنَّ نفسه ستكون متلهِّفة للنهاية.

في رواية "قلب الملاك الآلي" سنطَّلع على صُور التناقضات العقَدية التي يعيشها الكائن البشري، المُتطرّف؛ الذي يعيثُ في الأرض فسادًا، يُسفك الدماء، يُهلك الحرث والنسل، وفوق كلّ هذا يرى جنّة الفردوس مصيره ومصير الذين يقدّمون أرواحهم لنصرة دينه المزعوم.

في رواية "قلب الملاك الآلي"، سنطَّلع على صُور التناقضات العقَدية التي يعيشها الكائن المُتطرّف الذي يعيثُ في الأرض فسادًا

هؤلاء العَليلون اختلفتْ جنسياتهم ومشاربهم، لكنّهم متّفقون على نصرة الدولة الإيمانية الكونية وبسطها على أرض المعمورة، ولذلك جمَعهم البردادي بكبسةِ زرٍّ آلية.

اقرأ/ي أيضًا: "قوارير شارع جميلة بوحيرد".. مرافعة روائية ضد بنيان الفحولة

بواتيي، ألمرية، اسبانيا، باريس، العراق، قُرطبة، مدينة السجراء عاصمة الدولة الإيمانية الكونية.. أماكن اختارتها ربيعة لتحريك أبطال المملكة، ففتحت فضاءً يسيح فيه القارئ.

بين ثنايا هذا النص، الموسيقى والفن جمعا الجمهور في المسرح، بالرغم مِن المعركة القائمة بين الفنّانين.

مانويلا، نيل من الله وعطاء ربّاني، أي ما ناولَ الله، هكذا يفسّر البردادي اسم الملاك.

وممّا أعجبني اقتباسًا: "أن يكون لكَ قلبٌ فأنتَ عالة على مُجتمع الجهاد". "الرّحم هو القلب الثاني لكلِّ أُنثى يا سيدي".

أهيبُ بعشَّاق روايات الخيال العلمي والطلَبة والنُقاد أن يقلّبوا قلبَ المَلاك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مخلوف عامر.. ألوان السرد الجزائري

رواية "طير الليل" لعمارة لخوص.. العنف وأصله في الجزائر