01-فبراير-2021

الروائية العُمانية ليلى عبد الله (فيسبوك)

اختارت الكاتبة العُمانية ليلى عبد الله لروايتها "دفاتر فارهو" (منشورات المتوسط، 2018)، موضوعًا مرتبطًا بالواقع المُعاش، وعلى اتصالٍ مباشر بحيوات عددٍ هائل من البشر حول العالم، وهو موضوع الهجرة واللجوء وأوجاعهما، بصفتهما عناوين اللحظة الراهنة بعد الحروب الأهلية والمذهبية والمجاعات وغيرها. وأسفل هذه العناوين، تُقدّم للقارئ تفاصيل ترصد تحولات الفرد ما قبل الهجرة/ اللجوء وما بعدها، بما هي تحولات تعيد صياغته وتشكيله، وتؤسس لنسخة جديدة منه بغير إرادته.  

تُقدّم ليلى عبد الله في روايتها "دفاتر فارهو" شخصيات متوترة، نتعرف إليها بينما تعيش أقصى توتراتها وأزماتها النفسية

وعبر هذه التفاصيل الموزعة على شخصياتٍ مختلفة، ولكنها تتشارك الصفة والمصير وطبيعة الحياة ونمط العيش أيضًا، تبني ليلى عبد الله قصتها التي تظل مفتوحة بعد نهاية الرواية، في إشارةٍ ربما إلى أن مأساة الهجرة واللجوء لا تزال قائمة. وعلى الرغم من أن هذه المأساة هي موضوع الرواية، إلا أن حضورها يبدو مشروطًا بأن تبقى خلفية لما يجري، أو سببًا لما وصلت إليه أحوال الشخصيات. فما يعني الكاتبة هنا ليس الاستفاضة في الحديث عنها، وإنما الانصراف إلى معاينة أحوال شخصياتها النفسية وأوضاعها الداخلية أيضًا، بهدف اكتشاف أكبر قدرٍ مُمكن من التفاصيل المنسية في حكايات اللاجئين.

اقرأ/ي أيضًا: الخاكيون الجدد.. تحرّر الشِّعر العراقي من سجون الأيديولوجية

تُقدّم ليلى عبد الله شخصيات متوترة، نتعرف إليها بينما تعيش أقصى توتراتها النفسية، وفي الوقت الذي تحاول فيه مقاومة ما يمكن وصفه هنا بـ "الهيمنة"؛ هيمنة تحاول فرضها عوامل داخلية يتقدمها الماضي ببؤسه ومآسيه، وهيمنة أخرى تحاول فرضها عوامل خارجية مختلفة تتعلق بغرابة المكان وغياب الآلفة وطبيعة المحيط، بما يُصدِّره من أسئلةٍ حول معنى الهوية والهجرة والمنفى والوطن.

وسط هذه الظروف البائسة، نتعرف إلى فارهو، أو فارح، بطل الرواية الذي يروي قصته على مسامع شخص يسعى لتحويلها إلى فيلمٍ وثائقي. يروي فارهو قصته هذه في السجن، وقد تجاوز الأربعين من العمر، مستعيدًا ماضيه الذي يبدو مسارًا وعرًا وشائكًا انتهى به في السجن. ولعل الانطباع الأول الذي سيتشكل عند القارئ، هو أن البطل يعيش في ماضيه، وتسكنه رغبة ملحة ودائمة بالحديث عنه، عما كانت عليه أحواله وأحوال عائلته، وعما آلت إليه فيما بعد، في ظل سعيهم المستمر للنجاة.

يشغل السعي إلى النجاة حيزًا واسعًا من الرواية، ويتبدل معنى هذه الكلمة، النجاة، على نحوٍ متواصل داخل العمل، تبعًا للظروف الراهنة. والمفارقة أن ما آلت إليه أحوال فارهو وعائلته، إنما هو نتيجة لمساعيهم هذه، إذ قُتل والده بينما يسعى إلى تأمين حياةٍ أفضل لعائلته، وضمان نجاتهم من الحروب الدائرة والمجاعات المنتشرة حولهم، فيما فقدت شقيقته عذريتها مقابل مساعداتٍ غذائية، وبالتالي ضمان نجاتهم من الموت جوعًا، وستفقد حقها في حياتها بعد زواجها من رجلٍ ثري بهدف إنقاذ والدتها من الموت، وسيفقد فارهو فيما بعد الحق ذاته أيضًا للسبب نفسه: نجاة والدته.

السعي إلى النجاة ورط فارهو وعائلته بأزماتٍ أخرى مختلفة، حاولوا النجاة منها أيضًا، ولكن النتيجة أن العائلة تفككت في النهاية. هنا، تطرح الرواية جملة من الأسئلة المتعلقة بهذا المفهوم، مثل: ما معنى النجاة من أزمة طالما أن النتيجة هي الدخول في أخرى جديدة أشد سوءًا؟ ما معنى النجاة من الموت طالما أن النتيجة خسارة الذات والانسلاخ عنها؟ ما معنى العائلة طالما أن التضحيات التي تُبذل في سبيل وحدتها هي المسؤولة عن ضياعها؟ وأي معنى للحاضر إذ كان مجرد صورة محدّثة للماضي بكل بؤسه؟

تُقدّم ليلى عبد الله اللاجئ في روايتها لا في لحظة ضعفه فقط، وإنما لحظة صراعه مع هوياته المتعددة، وشخصياته المختلفة أيضًا

تحاصر هذه الأسئلة فارهو، ولكنها لا تصرفه عن السؤال المركزي في حياته، وهو: من أنا؟ تشكل هذا السؤال عنده، وهيمن عليه، نتيجة عوامل مختلفة، منها عدم قدرته على التمييز بين الشخص الذي يسعى إلى أن يكونه، والشخص الذي تريد له شقيقته أن يكونه، وذاك الذي يدفعه إليه خاله، بالإضافة إلى الشخص الذي تؤسسه عملية التزاوج بين الماضي والحاضر، ماضيه البائس وحاضره الأشد بؤسًا. ورغم مقاومته المبدئية، إلا أنه سيستسلم في النهاية لمصيره، ويترك للآخرين حرية تفكيكه وإعادة بنائه كما يشاؤون.

اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل.. لا ندخل الكتاب نفسه مرتين

تُقدّم ليلى عبد الله اللاجئ في روايتها لا في لحظة ضعفه فقط، وإنما لحظة صراعه مع هوياته المتعددة، وشخصياته المختلفة أيضًا، بحيث يتعرف إليه القارئ بينما يسعى إلى الحفاظ على ذاته ومقاومة أخرى تُفرض عليه من قبل محيطه والنافذين فيه، كما هو حال فارهو الذي سيُراقب القارئ تبدلاته وتغيراته وتحوله من شخص سويّ، إلى آخر مُفكك ومُعاد تركيبه وفقًا لما يريده مُحيطه وأُناسه، في ظل غياب أي بديل، ووسط خياراتٍ صعبة وضيقة ومحددة مسبقًا، لا يمكن للإنسان أن يكون هو ذاته عندها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فتنة الحكاية

السجن ودكتاتوريات القرن العشرين.. شهادات من العالم