15-أبريل-2020

سامي المقدم (فيسبوك)

يعدّ الانتقال من الكتابة بلغة أجنبيّة إلى العربيّة تحديًّا حقيقيًّا قد ينجح فيه البعض وقد يفشل آخرون. نذكر هنا مثلًا تجربة الجزائريّين عمارة لخوص الذي نجح في اللّغتين العربيّة والايطاليّة، والروائي أمين الزاوي في الفرنسيّة. لا يحتاج البناء في الرواية إلى التمكّن من اللّغة فقط بل إتقان الحبكة والحكي.

نُشرتْ حديثًا رواية بعنوان "مقبرة الفراشات" (عن منشورات Pop Libris) للروائيّ التونسي سامي المقدّم والتي تعتبر روايته الأولى المكتوبة بالعربيّة بعد نشر روايتين بالفرنسيّة وهما على التوالي "تسعة عشر" و"دماء الملائكة". سامي المقدّم  خبير محاسب وكاتب تونسي من مواليد 1982 تحصّل على جائزة الاكتشاف للكومار الذهبي للرواية بالفرنسيّة سنة 2015.

أسرار مدينة الأقنعة

تدور الرواية حول ياسر طالب جامعيّ في الثمانية عشر من عمره وعاشق للأدب وموسيقى الروك والكاونتري، يتعرّف في مدارج الجامعة على نور القمر، امرأة تبلغ السابعة والثلاثين من عمرها. تنقاد الشخصيّتان إلى علاقة صداقة قويّة تتطوّر إلى قصّة حبّ.

تنهلُ رواية سامي المقدّم من رواية المحاكمة لفرانتز كافكا بما فيها من وظلم قهر وعبثية، ومن أدب الفانتازيا رغم أسلوبها الرومانسيّ

تدعو نور القمر صديقها إلى مسقط رأسها عين دراهم، قرية تونسيّة غنّاء في الشمال الغربي التونسيّ أين تعرّفه على والدها وجدّتها وإلى صديق العائلة صاحب متحف التحف القديمة. يكتشفُ ياسر شيئًا فشيئًا أسرار صديقته الجديدة، انطلاقًا من الكوخ الذي يسكنه سيّد المستنقعات. تقود الشابّ تلك الأشياء الغامضة إلى عالم عجائبيّ داخل رواية كتبتها نور القمر تروي بعض حكايات عن مدينة الأقنعة. يحملُ كلّ من يعيشون في المدينة أقنعة على وجوههم، وأسماء سنواتها العجيبة مثل "عام الذئب الرماديّ" و"عام الورقة الصفراء" و"عام الشمعة المنطفئة" و"عام الصخرة الخرساء" وغيرها. يحكم المدينة دستور يقضي بمحاكمة كلّ من ينزع قناعه، ويمنع الخروج خارجها والوصول إلى برجها. مدينة تموتُ فيها كلّ الفراشات.

اقرأ/ي أيضًا: "الفهد" لجوزيبه تومازي لامبيدوزا.. مفتاح صقلية

يَنْسَابُ السردُ خفيفًا في الرواية، في مراوحة بين سرد لما يصير في مدينة الأقنعة وقصّة الحبّ التي تنمو بين الصديقين الجديدين. تُصَوِّرُ المدينة القمع الذي نجده لدى النظم الشموليّة عامّة، ومن بينها نظام ما قبل الثورة التونسيّة، الذي كان زوج نور القمر أحد ضحاياه. جاء في الرواية: "قد أحاكم مثل المارقة، قد أُصلبُ في الساحة الكبرى، ربّما، لكنّ شيئًا ما تغيّر اليوم...بذرة أمل زُرعتْ في صدور عشرات الأقنعة... أمل انبثق -يا للسخرية- من مقبرة الفراشات!".

شمشون والخطيئة الكبرى

يقول إميل سيوران أنّ "فنّ الحبّ؟ أن تعرف كيفَ تجمع طبيعةَ ممتصِّ دماء إلى تخفّي فراشة". يقودك التوغّل في عوالم قصّة الحبّ التي ترويها "مقبرة الفراشات" إلى اكتشاف أسرار جديدة كلّ مرّة، إذ يخدّرك أسلوب السرد البسيط لسامي المقدّم ثمّ يمتصّ دمك عبر مفاجأتك أنّ نور القمر لن تكون إلا الأمّ البيولوجيّة لياسر. يُعذّبُ زوج نور القمر المعرض للنظام وخطف ولدها الرضيع ليربّيه أحد أفراد الشرطة وتلتقيه صدفة عندما تتعرّف عليه بعد أن قرّرت العودة للدراسة الجامعيّة. يراوغك سامي المقدّم بأسلوب العلب الصينيّة في السرد، إذ كلّما اطّلعت على سرّ يظهر آخر وسطه. إنّها رواية المتاهات والعجائبيّة والحبّ المحرّم.  

يقع المحظور بين الأمّ وابنها وينساقا مع رغبتهما الجامحة، يقول الراوي واصفًا اللّقاء بين الحبيبين "هنا صعقتُ. أغشاني نور ساطع تماما فصرت ضريرًا. إنّني شمشون الأعمى يتحسّس جدران المعبد بينما قطرات ماء مبارك تنساب لتروي عطشه. ينهمر الماء المقدّس على شمشون ويغمره طعمه العذب. يمنحه القوّة ليرجّ أعمدة المعبد. إنّه يشعر بالاهتزاز، بالرعشة المقدّسة ولا يخشى انهيار المعبد بل ينتظره".

يعتبر انقسام الشرنقة في نظر البعض موتًا، لكن في الواقع هو ولادة فراشة

صار جسد ياسر أعمى أمام الخطيئة الكبرى! لم تكن أسطورة شمشون ودليلة الوحيدة التي استند عليها سامي المقدّم في روايته. استلهم من عقدة أوديب أيضًا لتبلغ الأحداث ذروتها حين تقتل والدها الذي -آذاها في طفولتها- انتقامًا منه وتذوّب جثّته.

 الشرنقة قناعٌ لإخفاء الحقيقة

تنهلُ رواية سامي المقدّم من رواية المحاكمة لفرانتز كافكا بما فيها من وظلم قهر وعبثية، ومن أدب الفانتازيا رغم أسلوبها الرومانسيّ. خليطٌ عجيبٌ تمّ توظيفه وسط حبكة محكمة، ولغة براغماتيّة وغير متقعّرة حاول الكاتب تبيان أنّ قانون الغاب أرحم من دستور الدكتاتوريّات الذي تقول مادّته الرابعة أنّ "القناع حقّ وواجب.كلّ مواطن يحمل اسمًا: القناع الفاضل!". قناع أخفى هواجس ثلاثة أجيال من التونسيّين منذ الاستقلال، تبيّن بعده أنّ الزيجة بين الماضي والحاضر لا تستقيم.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة جمال الجلاصي

الفراشة هي تمثّل للمرأة في اليابان، لنور القمر التي رفضت البقاء داخل شرنقتها وحرقتها شمسُ توقها للحريّة والتغيير، لكن روحها بقيتْ خفيفة ومسافرة بين حدائق الربيع. يعتبر انقسام الشرنقة في نظر البعض موتًا، لكن في الواقع إنّه ولادة فراشة. كانت الشرنقة ذلك القناع الذي نختفي وراءه كيْ يغطّي الحقيقة، إذ "يصغر المرء في عين نفسه إذا كان صادقًا، أعطه قناعًا وسيصدح بالحقيقة" كما يقول أوسكار وايلد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ألبير كامو حول كورونا.. المعاناة عشوائية وذلك أبسط ما يمكن قوله

رواية "الحلم الألماني".. هزلية عن الديمقراطية الغربية وأوهامها