24-فبراير-2022

الشاعر والروائي علاء خالد

تتحرك رواية "متاهة الإسكندرية" (دار الشروق 2021) للكاتب علاء خالد في خط طولي. أقله بالنسبة لقارئها. هي متاهة بالنسبة لكاتبها على الأرجح. ذلك أن ما يحيط بهذا الخط الطولي الذي يلاحقه القارئ قد يكون متشعبا إلى درجة أن سحب هذا الخيط من الخيوط المتشابكة معه يشبه انتشال إبرة من كوم قش. خط الرواية يشبه أيضا عصا البدل في السباقات، كل شخصية تسلم عصاها للتي تليها. وغالبا ما تكون تلك الشخصية مركونة على رف الانتظار حتى يحين دورها في سرد حكايتها وماضيها. في الحقيقة هي شخصيات وأمكنة. "متاهة الإسكندرية" ليست متاهة شخصياتها فقط، بل هي متاهة شوارعها وماضيها وحاضرها وخطوط مستقبلها الرفيعة.

"متاهة الإسكندرية" ليست متاهة شخصياتها فقط، بل هي متاهة شوارعها وماضيها وحاضرها وخطوط مستقبلها الرفيعة

الخروج من هذا الوصف التشكيلي للرواية يحتاج دليلا سببيا. ما الذي يجعل قارئا يصر على استكمال قراءة رواية عن مدينة لا يعرفها. ولا تتشكل بحكايات أصحابها الدرامية، بل بسيرهم الخيطية نحو هدف غير مرئي ومعاين للقارئ والكاتب على حد سواء؟ أزعم أن علاء خالد ينجح في جر قارئه إلى قراءة رواية تشبه الحياة نفسها. الحب في الرواية ليس مفجعا وصادما كما يوصف في الشعر والرواية. والأحداث فيها لا تقطع الأنفاس، وليس ثمة قلق يعتري قارئها على مصير أحد شخصياتها. على العكس، حتى الموت، موت الأمكنة والأشخاص يبدو في الرواية أليفا ألفة التسامر بين أصدقاء حول طاولة في مقهى.

اقرأ/ي أيضًا: تمارين الشعر اليومية

تصف الرواية موت اجتماع وولادة آخر ثم موته. الاجتماع الذي كان قائما قبل 1952 له أبطاله وشخصياته. حيواتهم قلبت رأسا على عقب، صحيح، لكنهم بمعنى ما، ما زالوا إسكندرانيين. حتى الذين هاجروا من أجانبها وأوروبييها نجحوا في إبقاء ذكراهم في حواري المدينة وشوارعها وذاكرات أهلها.

ثم تصف انفراط عقد اجتماع آخر، اجتماع ما بعد الثورة. هذا أيضا له أبطاله وأماكنه وأحداثه، ويتجاور مع الاجتماع الذي بني على أنقاضه، من دون حسرة أو غضب أو ملامة. الأمر بسيط، كما لو أن الانقلابات الحادة في طبيعة الاجتماع والاقتصاد والسلطات شأن يومي كتقلبات الطقس الشتائي. لا أحد يلوم أحدا ولا أحد يتحسر على ماض لن يعود، أو يأمل في مستقبل يعيد بعض ألق الماضي. في حقيقة الأمر تبدو الرواية كما لو أنها معنية بمراقبة الحاضر في الإسكندرية، لكنها تتعامل معه بوصفه قد مضى وانقضى. الرواية هي سرد لماضي المدينة. سرد ينطلق من إيمان قاطع وخافت النبرة، يفترض أن العيش في هذه المدينة والموت فيها ليسا أمرين يمكن تجنبهما.

هذه المدينة لأهلها، حين يكونون مقتدرين وحين يكونون مفتقرين. الافتقار بعد تمكّن لا يجعل الإقامة فيها مستحيلة. على العكس، الناس في هذه المدينة تقيم في حكاياتها. تلك الحكايات المنثورة على جدران المقاهي وفي زوايا الشوارع وفي المباني التي تتجاور من دون ترتيب طبقي أو فئوي أو طائفي. كما لو أن إسكندرية علاء خالد هي مدينة قدرية، لا أحد يلوم أحدا إذا تعسرت أحوال فئة واغتنت أخرى على حسابها. ستبقى المدينة ملاذا لأهلها بصرف النظر عن العواصف التي تعرضوا لها. يشبهون أشجارا معمرة، تبقى في المكان وعلى جلدها تظهر كل أثار العواصف من دون أن تجعلها هذه الآثار ناقمة أو حاقدة أو يائسة.

تبدو رواية "متاهة الإسكندرية" كما لو أنها معنية بمراقبة الحاضر في الإسكندرية، لكنها تتعامل معه بوصفه قد مضى وانقضى

إذا شئت أن أصنع خلاصة لمتاهة الإسكندرية كقارئ، يمكنني القول إن المدينة متاهة من جهة استحالة الخروج منها. وأن الحياة فيها تشبه الحياة حقا. ليست حارة بالمعنى الذي توحي به الروايات والأشعار وأفلام السينما، لكنها أليفة إلى الحد الذي يجعلها أقرب ما تكون إلى الحياة لا إلى تمثيلها.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ماكيت القاهرة".. من خريطة مدينة إلى أطلالها

هل يمكنني أن أخرج من هذه الألفة إلى خلاصة ما؟ رواية علاء خالد تحاول أن تقول لي إن عقودا كثيرة من السعي إلى التغيير والثورات لم تكن مجدية. إذ لطالما كانت الإسكندرية، وربما مصر برمتها، وطنا كامل الصفات. ومعنى الوطن أنك تتوطن فيه وتسكن إليه، وتكف عن محاولة قسره على أن يكون شيئا آخر. هذا الوطن ليس حلما نريده أن يتحقق. إنه متحقق وحال، وليست أحوال السياسة وسياسات السلطات سوى طوارئ على هذين التحقق والحلول. ما يجعل كل مسالك السياسيين والتكنوقراط مجرد تعكير لصفو الاطمئنان والسكون الذي يجعل المدينة وطنا دافئا كحضن الأم، ويجعل كل الحراك الذي يجري فيها مجرد شيطنات أطفال خبثاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "سيدة الفندق" ليوسف آتيلغان.. أحداث مضطربة مثل تاريخ بلد

محمد ديب: أي آخر.. أي آخرين؟