01-فبراير-2022

يوسف آتيلغان وروايته (ألترا صوت)

"سيدة الفندق" (دار الساقي، 2021/ ترجمة بكر صدقي) للروائي التركي يوسف آتيلغان (1921 – 1989)، رواية مضطربة لا في قصتها فقط، بل في بنائها وتفاصيلها وتقنياتها السردية والقواعد التي بُنيت عليها. هنا بالضبط تتجلى فرادة الرواية التي نكتشف، في صفحاتها الأخيرة، أن اضطرابها لم يكن خللًا ولا حتى مجرد شعور عابر تتسم به حياة شخوصها، وأنماط معيشتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، وسلوكهم أيضًا، وإنما أسلوبًا تروى من خلاله.

"سيدة الفندق" ليست رواية حوادث بقدر ما هي رواية تصرفات مضطربة، وسلوكيات صادمة وغريبة وغامضة لا تفسير لها

بناء رواية مضطربة، شكلًا ومضمونًا، هو غاية يوسف آتيلغان الذي جعل من هذه الصفة أسلوبًا سرديًا، ومناخًا عامًا، وشعورًا داخليًا في آنٍ معًا. عليها تتشكل أحداث روايته، ومن داخلها تُروى حكاية بطلها زبرجد الذي يدير فندقًا صغيرًا في بلدة تركية لا نعرف عنها سوى ما يصلنا عبر زبرجد نفسه الذي، وللمفارقة، قلما غادر الفندق منذ أن خلف والده في إدارته.

اقرأ/ي أيضًا: محمد ديب: أي آخر.. أي آخرين؟

ولد زبرجد في هذا الفندق الذي أمضى فيه أكثر من ثلاثة عقود من حياته التي سارت، منذ أن توفي والده وعهد إليه رستم بيه – مالك الفندق وخاله في آنٍ معًا – بإدارته، وفق روتين تحول مع مرور السنوات إلى نمط معيشي ضبط إيقاع حياته، التي اقتصرت على إنجاز المهمات الإدارية البسيطة والرتيبة داخل الفندق، الذي لا يغادره إلا لإرسال عائداته المالية إلى مالكه المقيم في إسطنبول، أو لقص شعره مرة كل أربعة أسابيع. عدا ذلك، لا يوجد ما يستدعي الخروج منه.

لكن هذا الروتين الذي يشي بحياة هادئة ورتيبة مصدره، في الأصل، قلق زبرجد مما يحدث خارج الفندق وعلى الفندق ذاته، بل قلقه من الحياة والعلاقات الاجتماعية التي يتوجب عليه خوضها والانخراط فيها خارجه. هكذا يكون الروتين، أو الحياة الروتينية التي تبناها، ليست سوى ردة فعل على قلقه تجاه العالم والآخر. ويكون الفندق، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن إدارته تتطلب منه البقاء فيه طوال اليوم، إطارًا استوعب قلقه واضطراباته منذ نشأته وحتى ظهور تلك السيدة التي يحيل إليها العنوان، ولا نعرف عنها سوى أنها أنهت، حين نزلت في الفندق لليلة واحدة، الحياة الروتينية التي تبناها زبرجد، ووضعته إزاء أخرى مضطربة وفوضوية.

تبدأ الرواية بخروج تلك السيدة من الفندق، وتنتهي بانتحار زبرجد بعد إغلاقه للفندق وقتله لخادمته أثناء مضاجعته لها. هذه هي الأحداث التي تقوم عليها رواية يوسف آتيلغان، وبهذه السهولة يمكن تلخيصها أيضًا. لكن تلخيص الأحداث لا يعني تلخيص الرواية. فالأخيرة ليست رواية حوادث بقدر ما هي رواية تصرفات مضطربة، وسلوكيات صادمة وغريبة وغامضة لا تفسير لها، وتفاصيل مفاجئة تحيل مجمل الرواية إلى لغز. يخطر لنا ذلك حين نراقب تحول زبرجد من شخصية روتينية رتيبة وواضحة في مطلع العمل، إلى أخرى مضطربة، قلقة، وغير مفهومة لدرجة أننا لا نجد أسبابًا واضحة، أو تفسيرات ودوافع منطقية لتصرفاته.

لن نعرف عن تصرفات زبرجد، إغلاقه للفندق وقتله للخادمة وانتحاره تحديدًا، أكثر من أنها حدثت بعد ظهور تلك السيدة. لكن الأخيرة، مع ذلك، ليست سببًا. قد تكون جزءًا من أسبابٍ أخرى، لكننا لا نعرف حتى لمَ قد تكون كذلك. ظهورها وغيابها السريع، كما أي نزيل آخر، لا يساعد في رد ما جرى لزبرجد إليها. صحيح أنها شغلت تفكيره، وتخيل نفسه يضاجعها، واستمنى غير مرة على منشفتها التي نسيتها في الفندق، ولكن هل هذا يكفي لتفسير ما حدث بين ظهورها وانتحاره؟

تتحول الرواية بين هاتين الحادثتين، وبفعلهما أيضًا، إلى مجموعة من الألغاز، بل إن جل ما يبقى واضحًا منها هو اضطراباتها، إن كان على مستوى الشخصيات، بسلوكها وتصرفاتها وطبيعة حياتها، أو حتى على مستوى السرد المتشظي الذي يراوح بين الخيال والواقع، الماضي والحاضر، بطريقة فوضوية ومضطربة.

الاضطراب في رواية يوسف آتيلغان يبدو موضوعًا رئيسيًا. لا يتعلق الأمر هنا باضطرابات زبرجد فقط، بل يشمل التاريخ والسياسة، ويكاد أن يكون اضطرابًا عامًا. فأحداث الرواية تجري في أعقاب انقلاب الجيش التركي على حكومة عدنان مندريس مطلع ستينيات القرن الفائت. والعائلة، عائلة زبرجد التي تحضر في الرواية بشكلٍ عابر، تتقاطع أحداثها وبعض تفاصيلها مع أحداث فارقة، ومضطربة، في تاريخ تركيا. فالتاريخ المدوّن على مدخل الفندق يشير إلى 1838، وهي السنة التي أصدر فيها السلطان عبد المجيد الأول فرمان التنظيمات. والفندق نفسه نجى من الحريق الذي أشعله اليونانيون قبل خروجهم من البلدة عام 1922، عشية نهاية حرب الاستقلال وإعلان الجمهورية التركية. بل حتى أن فاروق، شقيق رستم بيه مالك الفندق، انتحر بعد ثلاث سنوات على انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908.

بناء رواية مضطربة هي غاية آتيلغان الذي جعل من هذه الصفة أسلوبًا سرديًا، ومناخًا عامًا، وشعورًا داخليًا في آنٍ معًا

اللافت في سيرة عائلة زبرجد هو انتحار فاروق الذي نشعر بأنه ليس بعيدًا عن انتحار زبرجد، بل وأن الحادثتان متوازيتان بشكلٍ أو بآخر. فما دفع فاروق إلى الانتحار هو وقوعه في حب زوجة شقيقه. بينما جاء انتحار زبرجد نتاج سلسلة من الأحداث والاضطرابات التي تلت ظهور تلك السيدة في فندقه. في الحالتين هناك امرأة، وهذا هو وجه الشبه في القصتين. أما اختلافهما، فيكمن في وضوح دوافع فاروق، وغموض دوافع زبرجد.

اقرأ/ي أيضًا: برنار نويل.. مقيمًا في الذاكرة

يمكن القول إن يوسف آتيلغان لم يبن في "سيدة الفندق" نصًا روائيًا مضطربًا فقط، بل متاهة تتجلى عند البحث عن تفسيرات لتصرفات بطلها الذي انتهى منتحرًا. يمكن القول أيضًا إنها ليست متاهة تقليدية، وأن جزءًا كبيرًا منها مرده إلى الاضطراب الذي تنهض عليه الرواية وتروى من خلاله. هذا ما سنكتشفه في نهايتها، حين تكتمل حكاية زبرجد ويصير بوسعنا مراجعة مساراتها، وحين نصير على علم ببعض تفاصيل وأخبار عائلته، وحين ننتبه أيضًا، ونأخذ بعين الاعتبار، أن كل حدث فارق ومضطرب في تاريخ هذه العائلة، يقابله آخر مشابه، وواقعي، في تاريخ تركيا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "دلشاد".. أهل مسقط في نصف قرن

سرايا بنت الغول: الخرافيّة وواقعيتُها