30-يناير-2022

الروائي والشاعر محمد ديب

في كتابه "الشجرة الناطقة"، تحدّث الكاتب والشاعر الجزائري بالفرنسية محمد ديب عن تجربته في الكتابة، وعن علاقته بنتاجه الذي تجاوز الثلاثين عملًا، كما وضع حواراته مع الطفلة ليلي بيل، وهي ابنته من زوجته الفنلندية، جاعلًا من الطفولة منظورًا نحو العالم. هنا نص مستعاد من الكتاب.


حدث ذلك في ستراسبوغ منذ زمن ليس بعيد، كان خريفًا في إحدى لقاءات "تقاطع الآداب" الذي تمحور موضوعه آنذاك حول "أقصى أوروبا"، اجتمع خلال هذه اليوم بين سبع إلى ثمانية فلاسفة حول طاولة مستديرة في مدرج اوبات (Aubette) في ساحة كليبر (Place de Kléber).

محمد ديب: "لا بد أنكم لاحظتم مثلي أن العالم مليء بالغرباء فمن هم يا ترى الآخرون؟"

كانوا يتحدثون في الواقع باستثناء شخصين، قرأ الأغلبية مداخلاتهم من أوراق تم إعدادها مسبقًا، ثم لاحقًا أجابوا على كم من الأسئلة قام منشِّط اللقاء بطرحها، الحقيقة أنه كان مستحوذًا على الكلام أكثر من الفيلسوف الذي يوجه له السؤال، حتى ينسى أن السؤال طرح عليه.

اقرأ/ي أيضًا: معرض "محمد ديب والفن".. الروائي الذي كان فنانًا

في الختام وفي اللحظات الأخيرة وكتقليد كان الجمهور مدعو لطرح الأسئلة، وقد أجيب على عدد منها، جاءت من جزء من المتواجدين في القاعة. كنت هنا بين هؤلاء الحاضرين، لا أعلم ما الذي دهاني؟ بلا شك هو ذلك الشيطان الذي يدفعك لأن تقذف حُبيبة الملح خاصتك في قدر مغلي لا يحتمل أي إضافة، هذا ما حدث معي قبل أن أكون مرئيًا فحسب.

- لا بد أنكم لاحظتم مثلي أن العالم مليء بالغرباء فمن هم يا ترى الآخرون؟

خيّم الصمت في صف الفلاسفة في أسفله، في وهج الأضواء، كما لو كانوا في أعماق الجحيم بينما نحن الجمهور نسيطر عليهم على مدرجاتنا، ما زلنا نرى المطهر في ظلامنا، ثم خشيت أن يساء فهمي، فرحت أشرح أكثر:

- يتعلق بي أن أدرك أنني غريب لكن، أنتم من تكونون؟

مجددًا يخيم صمت الجحيم، لكنه صمت بالإمكان استشعاره مع تأمل ثقيل، أما في مطهرنا فقد كانت هناك ضحكات، أو أنها سخريات، على عجل اختنقوا، ثم بعد فترة: تبدو الدقيقة في مثل هذه الظروف وكأنها أبدية، كانت إجابة أحد الفلاسفة كالتالي:

ـ نحن الآخرون

هنا انتهى الأمر، لقد تم تسوية مصير سؤالي.

ثم وشوش لي أحدهم أن الوحيد القادر على أن يولي اهتمامًا بسؤالي، شخص يسمى جاك ديريدا، علمت أنه مثلي من مواليد الجزائر، من عائلة يهودية وينحدر ربما من أصول بربرية، ومن يعلم ربما من تلك القبيلة القديمة والنبيلة ديرادي (Derrader)، أما أنا فقد نشأت في حضن عائلة أندلسية مسلمة ثرية نوعًا ما، ربما هي الأخرى بربرية وتركية قليلًا.

ومن المؤكد أنه يكتب أعماله الفلسفية باللغة الفرنسية مثلي تمامًا إلا أنني أكتب القصائد والروايات، ومع ذلك فإن الاجابة التي حصلت عليها منه كانت هي الأخرى " نحن الآخرون".

يشرع هذا الجواب أمامي مجالًا واسعًا من التفكير، أي منا، أنا أو هو، الغريب عن الآخر، الأكثر غرابة أو الأقل غرابة؟ وإن كنت أنا، نحن الآخرون: فمن هو من بين الذين كنت أراهم هنا أو الذين بإمكاني مقابلتهم في الشارع سيكون الغريب؟ كيف يمكن أن نكون أو أن نصبح الغريب، الآخر لـ نحن الآخرون؟ وإذا كنت الغريب، أيعني ذلك أن ليس لي أي تعريف مطلقًا إلا وسط مناخ له علاقة بالآخر؟ ولكن في مثل هذا الوضع من هو الآخر؟

إن كنت أنا الآخر فمن هو من بين الذين كنت أراهم هنا أو الذين بإمكاني مقابلتهم في الشارع سيكون الغريب؟

لم أتمكن من التحرر مطلقًا من هذا السؤال؟ لقد ظل السؤال كاملًا، كنت أعتقد أنني أعيش مشهدًا لريموند ديفوس (Reymond Devos)، أدرك جيدًا أنه يتوجب أن يكون المرء اثنين، بيد أن السؤال يظل قائما: من هو الآخر؟ هل الآخر هو الآخر المتعلق بـ نحن الآخرون؟ لا، لم أتمكن من تجاوز الأمر.

ـ نحن الآخرون يقول جاك دريدا.

لم يكن أمامي أي حل إلا الخروج من هذا المطهر، قبل أن أرتمي في الجحيم.

اقرأ/ي أيضًا: اختلاق الصحراء في رواية "الأميرة المورسكية" لمحمد ديب

وجدت نفسي في ساحة كليير يعمها ضباب شديد مذهل، وحتى وأن كانت عبارة عن ورشة لإنشاء سكة لتراموي فإنه لم يفقدها بأي شكل من الأشكال جمالها، قصدت الطريق نحو شارع دي فرانس بورجوا وصلت حيث الكاتدرائية وسط الضباب، فكانت كما لو أنها صفحة منتزعة من مدونة موسيقية عملاقة "فن الشرود"؟ تدندن مبددة كل الأفكار التي عصفت بعقلي.

كنت أصغي لـ أنتم الآخرون، ونحن الآخرون!

 

اقرأ/ي أيضًا:

معضلة الأدب العظيم

كاتب ياسين.. قصيدة من أجل العراق