11-فبراير-2022

طارق إمام وروايته (ألترا صوت)

كثيرًا ما ردّد إبراهيم الكوني في حواراته أنّ المكانَ يسكنه ويرحلُ معه أينما حلّ. نلاحظ ذلك جليًّا في عوالمه الروائية، كتبَ عن صحراء ليبيا وهو مقيمٌ في سويسرا لعقود. مِن هنا، يمكنُ التسليم إن المكان فضاء تشكّله الكتابة عن طريق اللغة، مِن خلال الوصف الذي يشكّل فيه الراوي شخصياته.

يؤمنُ طارق إمام بتأثير المكان المتخيّل على ذهن متلقِ واعٍ بما يقرأ، يبحثُ عن متعة المغامرة في النصوص الغريبة

قبل الخوض في نص رواية طارق إمام "ماكيت القاهرة" (منشورات المتوسط 2021)، لضخامته وهيبته- رجعتُ إلى المعجم لأُزيل لُبس مصطلح من العنوان، علِمتُ أن الماكيت تمثيل مصوّر لمبنى هدفه أن يُظهرَ ما سيكون عليه شكل المبنى عند اكتماله على الطبيعة، هذا ما لجأ إليه طارق إمام منذ البداية لكي يأخذنا إلى ما هو أعظم مِن المكان في روايته الفريدة. إمام يؤمنُ بتأثير المكان المتخيّل على ذهن متلقِ واعٍ بما يقرأ، متلقٍ يبحثُ عن متعة المغامرة في النصوص الغريبة. ومن أعماق البطلة نود، والمتلقيّة معنا للنصّ في آن واحد، أدركنا أنّ الخوفَ الحقيقي -أي الخوف من النّص- مختبئ في كلّ ما نراه يوميًّا بوصفه حياتنا، لذا لا بدّ من الإبحار والصبر على عُسر القراءة.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة طارق إمام

وما ذكري لنود كشخصية روائية مقدّمًا سوى ظهورها مبكرًا، مُدركةً أنّها لن تكون شخصًا واحدًا أبدًا في المرايا". حدثَ ذلك ذات يوم بعيد، كانت تقفُ وحيدة وعارية أمام مرآة غرفة نومها، عندما فوجئتْ أنّ سطح المرآة يعكس جسَدِين"، وعليك صديقي القارئ أن تزورَ المكان لتشاهد بقيّة الشخوص وما يفعلون.

ما يهمّني هو الأفكار العميقة والرؤيا الثاقبة لكاتب شارب من كؤوس الثقافة أنواعًا، جاءنا بعصير يصعبُ تذوّقه من الوهلة الأولى، طرحَ مُصيبة الموت، مثلًا -والموت سابق للحياة- كسبب أكثر هشاشة وضعفًا من بين أسباب عديدة تستوجبُ الحِداد، لنتحسّر على شموس حياتنا المُشرقة من دون اكتساب معرفة.

يضعُنا إمام أمام ميدان التحرير، مشتغلًا على تقنية الاستباق، ثمّة شُرطة وديعة ومتوحّشة، تراقبُ حركة المتجمهرين، لينة في تعاملها مع الشعب الذي تعاني مثله ما يعاني مِن ضنك وتشظي، لكن سرعان ما تتحوّل دموعهم الشخصية إلى دماء آخرين.

ويطرح السؤال في الرواية عن الرواية: هل نقيس المحاكاة على التصّور أم على الموجود؟ وهنا تتدخل البطلة الرئيسـة، واجدة بعض الإجابة في كتـاب منسي عجرم: "قرأتْ إنّ أكثر مَن يعجزون عن تفريق الزائف مِن الأصلي هم صانعو القِطَع الأصلية بالذّات، رسّامو اللوحات ومبتكرو المعمار ومصمّمو أوراق العُملة".

إنّ "ماكيت القاهرة" مدينة مِن فنّ، سيُكتبُ لها الخلود، بالرغم من أنّها ليست حقيقية، بُنيتْ في الخيال، عكس الإنسان الّذي يعرفُ أنّ مصيره الفناء، يا لقوّة الخيال.

ومن قوانين الإبداع الروائي معرفة النهاية، حتّى لا يتوه المُبدع في متاهات تنسفُ النّص الأدبي، إذْ يضربُ لنا المثل بورقةٍ ملوّثة بالحبر انتزعتْ من دفتر مدرسي، فكان نزعها سببًا في خلخلة ورقة لها معنى: "كيف يتسبّب اقتلاع ورقة خالية، ورقة فائضة وزائدة لا وظيفة لها، في اقتلاع ورقة تتزاحم فيها الكلمات، في اللحظة ذاتها، وبالقوّة نفسها؟".

 للمونولوج حِسّ فنّي عالٍ، يؤثر مباشرة على الذّات القارئة، ألا تُدهشنا مقدرة تقمّص الكاتب لشخوصه، والعيش مدّة الحكي في عمق أغوارهم النفسية؟

والقارئ الضمني كان حاضرًا ومُراقبًا، وكأن العبارة تُكتب بصيّغ مختلفة، ثمّ تستقر في الأخير على المعنى الأوسع الذي لن يتصيّد من خلاله الكاتب ولن يُحاسب، يتنامى التأويل في تكرار القراءة وربمّا في القراءة الواحدة، يا لهُ من أسلوبٍ يتطلّب دُربة أكثر منها اعتناء باللغة "حتّى اللغة تحتاج إلى قَدْرٍ من التكذيب حين تُنطق".

اقرأ/ي أيضًا: حوار| طارق إمام: المدن الأكثر حداثة تبدو لي وثنيةً

يتشابك شرح الأفكار بالسرد، كِدنا نراهما معجونين من مادّتين مُختلفتين، ويتخلّى عنّا الراوي لنقرأ المَتن وكأننا كتبْناه بأيدينا، ولأنّ الكاتب مدركٌ لذلك، تصرّح المسز- بطلة رئيسة- قائلة "إنّ كتاب منسي عجرم كتابان، وليس كتابًا واحدًا، أحدهما كتبَتْهُ يدُ الكاتب والآخر، في الحيّز ذاته، كتبَتْهُ يدُ القارئ".

في الكتابة الإبداعية نتّفق- نحن القراء- أنّ للمونولوج حِسّ فنّي عالٍ، يؤثر مباشرة على الذّات القارئة، ألا تُدهشنا مقدرة تقمّص الكاتب لشخوصه، والعيش مدّة الحكي في عمق أغوارهم النفسية؟ بحيثُ يصبح التخلّص منهم بعد إنهاء الكتابة فراقٌ صعب التحقيق، لا سيما إن كانوا شخوصًا مخلوقة، لا أثر لهم في الوجود، لقد تبرّع لهم بدمِه ونفخَ فيهم من روحه! لحظاتُ مخاضٍ تتكرّر عند بناء الشخوص، في هذا المضمار ولنعشْ الحوار:

- يمكنك الخروج لمرّة أخيرة، لجلب ما يلزمكَ من أمتعة.

ثمَّ أنّ الكتابة الإبداعية الحديثة -لا سيما نصوص الخيال العلمي- ليست مضطرّة لتنسيق المشاهد، شريطة أن تكون المشاهد كلّها خادمة للفكرة، متمرّدة على خط الزمان والمكان.

والفكرة تأتي صغيرة، مطواعة لمن سار ورائها متأملًا، لأنها ستتفتّق أجزاءً تتسّع في النص، ولأنّ مكوّنات النّص تسحبُ الكاتب ليقول ما تريده هي لا ما يريده هو.

عُدنا لمثال الورقة المنتزعة من الدفتر المدرسي، وأيّ ورقة في الضّفة الأخرى ستدفع الثمن، كان الحذف ضرورة حتميّة للتخلّص من الزوائد، كأنما نستخلصُ ماءً مقطّرًّا لآلة تعطّلها الرواسب، قالت المسز:

- كيف بدتْ لك تجربة إعادة تشييد بيتكَ؟

إنّ أسئلة كيف ولِمَ ولماذا، المراودة قبل الشروع في الخطاب، والتفكير في طريقة إيجاد إجابة شافية لها، تأسر الخطاب، فكلّ واقعة ستنتج أسئلة، يستطيع المتلقي تفسيرها وفهمها، وبالتالي وجب الاهتمام بما يؤدّي دورًا فاعلًا في الواقع، سيجدُ كلّ منّا نفسه في سطرٍ أو جملة، أو يصادق شخصية تشبهه ويعادي أخرى يكرهها "فمن المستحيل عمليًّا أن يشاهد ولو متلقٍ واحد عرضًا يستمر لأيام دون توقّف".

تغيبُ بطلة "ماكيت القاهرة" وتحضر، تقضي زمنًا من الوقت مغشيًّا عليها، فيصبح غيّابها في زمن النّص محاكاة لغيّابها في زمن الواقع

تخرجُ ماكيت القاهرة من إطار الرواية، تغيبُ نود وتحضر، تقضي زمنًا من الوقت مغشيًّا عليها، فيصبح غيّابها في زمن النّص محاكاة لغيّابها في زمن الواقع. لا بدّ أنْ نجعل مِن الكتب التي نعرفها وتعرفنا طوق نجاة لحظة الغرق.

اقرأ/ي أيضًا: طارق إمام في رواية "طعم النوم".. ثلاثة أجيال من النساء الوحيدات

كان طارق داريًا أنّ البداية من ماكيت مدينة والنهاية على أطلال مدينة، ظلّ المتلقي محشورًا بينهما؛ لكيلا يتشتّت في الأمكنة إخفاقًا دراميًّا، لن تكتسب هذه المادّة إيقاعًا بتدخل المونتاج، أمّا نحن فقد حكمنا على الرواية بالبديعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "طبيب أرياف" لـ محمد المنسي قنديل.. أرض الزمن الآسن

مكاوي سعيد: أنا كاتب كسول ومزاجي