يتناول سليم بركات في روايته "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" (المؤسسة العربية للدراسات 2019) الوضع السوري في الفترة التي تلت هزيمة العرب وضياع قسم من خرائطها في حرب الأيام الستة عام 1967. "كلما نظرتُ إلى الخرائط أدركت أن الشرق جهة خطأ" (ص 446).

يتناول سليم بركات في روايته "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" الوضع السوري في الفترة التي تلت هزيمة العرب وضياع قسم من خرائطها

يقع الفتى الكردي كيهات في حب الفتاة اليهودية لينا التي تسكن الحي اليهودي في مدينة القامشلي. ويتناول سليم بركات ضمن هذا السياق حياة الأكراد والأرمن واليهود في سوريا. كما يعرض واقع التسلّط البوليسي والمخابرات في تلك الفترة، ودورها في تسهيل هجرة اليهود من مدينة القامشلي، عبر تهريبهم إلى تركيا ولبنان، ومن ثم إلى قبرص. منهم من يعبر إلى فلسطين، ومنهم من يستقر في أمريكا في حي بروكلين في نيويورك.

اقرأ/ي أيضًا: ألغاز سليم بركات

أتقن سليم بركات في هذا العمل التعمق في النفس البشرية للإنسان السوري، لا سيما لدى الفئات التي طالها اضطهاد نظام الحكم وقمعه مثل الأقليات اليهودية والأرمن والأكراد؛ حيث زرع هذا النظام في نفوسهم الرعب والخوف لأنهم أدركوا أن الاعتراض على سياساته سينتهي بهم إلى سراديب عميقة تحت الأرض بحيث لا يسمع صراخهم أحد، وحيث سيختفون عن وجه الأرض. هذا النظام الذي زرع مخبريه في كل الأماكن حتى غدا الشعب غير قادر على التعبير والتفوه بأي شيء قد يكون ضد النظام.

من ناحية الأسلوب الروائي، عليَّ القول إنني في البداية كنت مترددة أن أقرأ لسليم بركات رغم رغبتي في القراءة له منذ فترة طويلة. سبق أن حاولت قراءة عمل له، لكنني اصطدمت بحاجز اللغة التي يكتب بها؛ شعرت أنها كانت لغة مجردة وكنت كما لو أنني أقرأ طلاسم لا أدرك ماهيتها. كانت فيها حذلقة ولم أستسغها. في هذا العمل، كانت اللغة عذبة وجميلة، ما جعلني أستمتع بالقراءة.

من ناحية السرد، كان هناك إسهاب في السرد بشكل كبير في العمل، لا أقول إنه لم يخدمه تمامًا، حيث إنه في بعض المواقع كان هذا الإسهاب كما السحر، يضخ جمال اللغة عذوبة لدرجة لا تشعر القارئ بأن بركات يحشو النص بالكثير من الكلمات التي يمكن الاستغناء عنها، فوجدتني أستمتع بهذه اللغة وأغفر له إسهابه.

أتقن سليم بركات في رواية "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" التعمق في النفس البشرية للفئات التي طالها اضطهاد النظام السوري وقمعه مثل اليهود والأرمن والأكراد

بالمقابل، في بعض مواقع العمل أضرَّ هذا الإسهاب في الإمساك بتركيز القارئ لدرجة بعثت على الملل، وبحيث كان من الممكن إسقاط الكثير من الجمل دون الإضرار ببنية العمل.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى سليم بركات في حجره الصحي

مأخذي على هذا العمل إضافة للحشو والإسهاب في بعض المواقع كما ذكرت سابقًا، هو أنني شعرت أن سليم بركات لم يستطع أن يفصل ذاته تمامًا عن شخصيات عمله، وأقصد بذلك أن وعيه، لغته، ثقافته حاضرة في غالبية شخصيات عمله على ذات المستوى، ولم يكن هناك مراعاة وأخذ بعين الاعتبار للفروق التي من الطبيعي أن تظهر بين الشخصيات. فمثلًا موسى ابن الثلاثة عشر عامًا شخصيته من النضج كما لو كان ابن ثلاثين عامًا. وهذا ينطبق أيضًا على غالبية الشخصيات الفتية في العمل والتي لا تتعدى أعمارها الستة عشر عامًا.

الطريقة التي تطور بها وعي الشخصيات والطريقة التي تعبر بها عن نفسها خلال العمل لم تكن مقنعة. شعرت أن سليم بركات أسقط عليها هذا النضج بشكل لا يتلاءم مع بنيتها النفسية والعقلية. نقاشات وحوارات في مواضيع فلسفية وحياتية مختلفة، مبادئ الاشتراكية والشيوعية، وغيرها من المواضيع، طُرحت على لسان الشخصيات الفتية بطريقة تظهر هذا الخلل. هنا، شعرتُ أن سليم بركات أسقط لغته بتعقيدها في بعض الأحيان وفِي زخمها، ومستوى وعيه على هذه الشخصيات، بحيث لم تخدم العمل، كانت غالبية الشخصيات على ذات المستوى والعمق من الوعي، بحيث ساهم ذلك في خلخلة انسجام العمل ومنطقيته.

تجذبني دومًا نهايات الأعمال، حيث في تقييمي للعمل، يأخذ هذا الجانب قسمًا كبيرًا من التقييم؛ أشعر أن العمل بنهاية محكمة، لا يقلُّ أهمية عن كيفية تطوره، عن لغته، وكافة جوانب العمل الروائي.. مع أنني أميل دومًا للنهايات القاسية والشرسة- كالتي وضعها صاحب "فقهاء الظلام" لعمله- والتي لم يكن بالإمكان أن تكون أكثر قسوة ومنطقية أيضًا مما جاء به الكاتب، إلا أنني كنت أتمنى لو كان أكثر رأفة بكيهات، ذلك الفتى الذي كسر الحب قلبه وهو بعد لم يذق حلاوته، لكن بالمقابل، كان سليم بركات ابن هذه البيئة، حيث تغتال المخابرات فرحة الشعوب، وحيث يكون الوطن أقسى على أبنائه من أبواب الهجرة والهروب من بطشه. وبالتالي، لم يكن بالإمكان أن يخلق نهاية وردية في ظل كل هذا القهر وهذه البشاعة لهذا النظام الذي يبث الخوف في نفوس الشعوب!

في رواية "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟"، يستشعر القارئ روح الكرديّ ونكهة حضوره بين السطور

"أخرج كيهات ورقته بالحروف العبرية فيها من جيب بنطاله. فتحها تأمل الحروف نازفًا نزيف الماء عكرةً في المجرى الموحل. نشج كيهات.

تمالك نفسه فلجم الصوت في مخارج قلبه الكهف.

جلس أرضًا على التراب الساخن.

نكت التراب بسبابة يده اليمنى.

مضغ الورقة الصغيرة بين أسنانه فجعلها علكة.

وضع الورقة المعلوكة في الجورة الصغيرة التي استحدثها في التراب.

ردم التراب عليها.

ضمّ فخذيه إلى صدره مطوّقتين بذراعيه.

حدّق إلى البعيد البعيد فوق مستوى رؤوس السنابل.

دَنْدَنَ كلمة "سوريا" مقطعة على نغم مرتجل: " سو. ري. يا "

شهق شهيقًا خفيفًا أعقبه بزفيرٍ مديد.

بكى كيهات" (ص 561).

اقرأ/ي أيضًا: مترجم سويدي: لماذا يغيب سليم بركات عن البوكر؟

في المجمل، هو عمل جميل لا يخلو أبدًا من عذوبه، وطوال قراءتي، كنت أستشعر روح الكرديّ ونكهة حضوره بين السطور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سليم بركات: التنين

سليم بركات.. غنى أم بذخ لغوي؟