19-مايو-2020

الشاعر والروائي سليم بركات (ألترا صوت)

العزيز سليم بركات، لا أحد يستطيع أن ينفي أنك شاعر حقيقي قلبًا وقالبًا. أنت شاعر كل الأزمنة. أستطيع أن أضعك في نفس المقام مع هوميروس أو يانيس ريتسوس، وإن كنت تختلف عنهما في اللغة التي تكتب بها. تلك اللغة الأشبه برحيق طازج في ربيع قديم، أو أريج الصباحات حينما يصبح البحر أقرب من حبل الوريد. لغتك التي تسمح لي بالفخر لأنني قرأت لك مبكرًا. قرأت لك في طفولتي دون أن أدري أنني أقرأ لشاعر كبير استطاع أن يطوع اللغة العربية، ويجعلها كخاتم في أصبع شخص ضجر يديرها في كل الاتجاهات. أنت النوتيّ الذي استطاع أن ينتصر على كريستوف كولومبوس. فإذا كان هذا الرحالة قد وصل قارة أمريكا فأنت وصلت ألف قارة دون أن تبرح سريرك. استطعت ذلك من خلال التخييل اللذيذ الذي يجعلنا نكتشف ذواتنا من جديد، كما يجعلنا نحوز على نشوة النصر دون أن نكون قد انخرطنا في أية معركة. نحن نكتفي بإطلاق العنان لخيالنا لنرى العالم وقد تجمل بعد أن تصبح ألوانه زاهية وجنباته أقل وحشة. حينها فقط نكون قد قطعنا تذاكر السفر إلى عوالم أخرى أكثر رحابة وأكثر استدرارًا للمشاعر الإنسانية النبيلة التي ستنقرض عاجلًا أو آجلًا.

في خضم التطاحن والركض المقيتين في دروب الحياة يجب أن نخلد من حين لآخر للجنون، كي نكون أحرارًا أكثر وكي تتقوى إراداتنا

العزيز سليم بركات، أنت الشاعر الكبير الآن بعد أن نجا صديقك محمود درويش من أحابيل الحياة على حد تعبيره ذات ألق شعري. فالموت هو الفرصة الوحيدة كي ننجو من الحياة. لكن الشعر أيضًا يسمح لنا بذلك. الشعراء هم الوحيدون الذين ينتبهون إلى عطايا الشعر الكثيرة، والتي نجد من بينها النجاة من الغرق في مستنقع اليومي. بالشعر - أحيانًا قراءة فقط - ننجو من كل أشكال الركاكة التي أصبحت عنوانات رئيسية في نص مسرحي ممجوج كفواكه تم قطفها قبل الأوان.

اقرأ/ي أيضًا: ألغاز سليم بركات

بالشعر نستطيع أن نصبح أكثر إنسانية. من قال إن كلمة الإنسان تكفي؟ إنها مجرد عتبة صغيرة يجب أن تعقبها ردهات كثيرة قبل أن ندلف إلى بهو الإنسانية. الإنسانية التي تحتاج الآن إلى ترميم مستعجل خارج أي برنامج حكومي. لأن هذا شأن لا تستطيع أن تقرر فيه الحكومات. إنه قدر الإنسانية وهي تواجه مصيرها في انحناءة قصيرة للتاريخ، وذلك حينما تشتد الغصة التي ستصبح أكبر من أن تستوعبها حنجرة.

العزيز سليم بركات، لقد اخترت البعد. هذا قدرك. إنك تذكرني فقط ببول بولز ذات تخف في طنجة. هو العارف بخبايا السرد وبكواليس عوالم الأدب اختار أن يتبتل في محراب متوسطي حينما كانت طنجة ملاذًا لكل الحالمين والهاربين من جشع الإمبريالية الشبيه بطفح جلدي أستطيع تسميته بأكزيما الروح. فالعالم آنذاك كان قد أصبح أضيق من كف عفريت.

ولكن هل نجا العالم؟ هل استطاع ان يبرأ من طفحه الجلدي؟

لم يستطع النجاة أيها العزيز. لأن هذا الطفح ازداد استفحالًا واتساعًا بعد أن امتدت أياديه إلى الأماكن القاصية والتي ستصبح قاسية ذات يوم. بول بولز كان يتطهر من أدران الإمبريالية. وأنت ذهبت إلى أعالي أوروبا للتطهر من تبلد الأذهان ومن النمطية القاتلة. ذهبت إلى هناك بعد أن وضعت قطيعة مع القبيلة التي لا زالت تحتاج الى عظم آخر لإطعام كلابها على حد تعبير الشاعر سركون بولص. الكثيرون يحزمون حقائبهم وأنت حزمت لغتك فقط ذات غروب. فعلت هذا طبعًا بعد أن وضع صديقك محمود درويش الوطن في حقيبة متنقلة جال بها كل مطارات العالم. هذا فقط لأنه شاعر. الشاعر لا يحتاج لأن يضع حفنة رمل في يده كي يتحدث عن الوطن، بل تكفيه فقط لحظة سكينة سريعة في صباح باريسي ليصنع وطنًا آخر. وطن اللغة الأشبه بسرير وثير.

إنها اللغة التي لا تختلف عن أم رؤوم وبارة بأبنائها. اللغة التي لا تنكر جميل أحد كما لا يستطيع أي كان إنكار جميلها. إنها المطية الأشبه بسلم للصعود إلى مدارج الروح التي تشبه عرش أرسطو. وذلك حينما تتطهر النفس وتتخلص من شوائب كل ما هو حسي وعابر إلى سدة الفناء، مثلما تعبر دراجة هوائية لحارس ليلي في غياهب الليل دون أن يحس بها أي أحد. اللحظة التي يتخفف فيها الجميع من سطوة الوقت التي دعا فرديريك نيتشه الى التمرد عليها. ففي خضم التطاحن والركض المقيتين في دروب الحياة يجب أن نخلد من حين لآخر للجنون، كي نكون أحرارًا أكثر وكي تتقوى إراداتنا. ذلك هو فيء الشعر أيها العزيز. إنه جنون آخر يجعلنا نتخلى عن جنون الأوهام والزيف الأخلاقي الذي لا يختلف عن زيف الدمى ومعارض الأراجوزات.

العزيز سليم بركات، أيها الشاعر الإنسان: حينما سئلت عن زوجتك وكيف تعاملها ذات حوار، أجبت بأنك تعاملها كشخص. لم أسمع أحدًا قبلك يقول ذلك. هل هو فائض الوعي الشعري؟ ذلك ما تحدث عنه، وسعى إلى تمثله، وتنزيله على أرض الواقع رجل صلب وعميق اسمه جان بول سارتر، حينما كان يخطب ود سيمون دي بوفوار العارفة بشؤون الإنسان والإنسانية. الندّ للند بدلًا من الدخول في متاهة التفاضل والأحقية السمجة التي لا يمكن لعقل أن يقبل بها. فالإنسان هو الإنسان مهما اختلفت ظروفه أو اختلف جنسه. هذا ما أومن به تمامًا. لذلك فالمرأة هي بالنسبة إليك شخص يتميز بصفات خمس مثلما جهر بذلك سارتر: الوعي، الحرية، المسؤولية، الاستقلال والقدرة على الانفتاح على الأشخاص الآخرين. هكذا فأنت غير مدان في شيء. لذلك فأنت قد أدرت ظهرك لأنانية الرجل الشرقي. فكيف لأمة ان تتقدم وهي تسير في الاتجاه الخطأ؟ فكلما اعتقدت أنها تقترب من خلاصها، فهي في الحقيقة لا تفعل شيئا سوى أنها تبتعد عنه مثلما أشار إلى ذلك الحكيم الروماني سينيكا، حينما كتب عن المضي في الطريق الخطأ بحثا عن السعادة. إننا نتجه في الاتجاه الخطأ بسرعة جنونية بحيث لا يمكن لأي شيء أن يقف في وجهنا. إننا نخطو بخطوات واسعة نحو حتفنا.

العزيز سليم بركات، الآن يا عزيزي أعتقد أن الحجر الصحي لن يضرك في شيء. فأنت اعتدت على التوحد بتعبير الفيلسوف مارتن هايدغر. فالتوحد ليس عزلة على كل حال. فقد تكون منعزلًا رغم أنك وسط الناس. أما التوحد فيمنحك ذلك الصفاء الذهني الذي لا غنى لك عنه لنسج المزيد من خيوط تعينك على توضيب أردية لتتلفع بها الأرواح القانطة التي تهيم هنا وهناك. الأرواح المحتجزة في هذا اللامكان بدون أية عزاءات تذكر.

ها هو العالم ينزع قبعته ويتنازل عن كبريائه، ويرفع أياديه إلى السماء مثلما كان يفعل المحاربون القدامى وسط المعارك الضارية

العزيز سليم بركات، حينما أدركت أن هذا الضيف الثقيل المسمى "كوفيد 19" قد أمسك بتلابيب الإنسانية مثلما تمسك الوحوش بفرائسها، قلت في نفسك "فليكن". فلا شيء سيتغير. فأنت مغرق دوما في تلك التأملات العميقة التي لا تذكرني سوى بتأملات ماركوس أوريليوس الروماني أو القديس أوغسطين. لا بأس أن تمضي هاته الحياة في طريقها عرجاء دون أن تنال منك. وهذه مزية أخرى للشعر. إنه يمنحنا ذلك الانقطاع عن العالم الأشبه بالانغماس فيه. تنقطع عنه دون أن تكون قادرًا على الفكاك منه ولو للحظة من الزمان. فأنت في لجة اليم تحمل سيفًا صقيلًا تضرب به يمنة ويسرة، مثلما كان يفعل دون كيشوت، حينما ذهب إلى محاربة طواحين الهواء، مع فارق كبير أيها العزيز هو أن سيوفه كلها انكسرت، ولم يسقط أمامه ولو قتيل واحد، بينما سيفك لا زال في يدك غير منقوص، وأمامك سقطت كلمات وقصائد ومعان نحبها جميعا. أمامك توجد حدائق دائمة الاخضرار وورود يانعة دائمة التفتح، لا تذبل أبدًا. لأنها ببساطة تتفتح في مخيلاتنا، ووفي أذهاننا، وليس أمام أعيننا. فالعالم على كل حال ليس ما نراه بأعيننا بل ما ندركه من خلال مفاهيمنا على حد تعبير ألبير جاكار.

اقرأ/ي أيضًا: سليم بركات.. غنى أم بذخ لغوي؟

العزيز سليم بركات، لا أعتقد أنك ستكون متضايقًا وأنت تجتاز هاته المتاهة الكبرى التي جعلت الإنسان يفكر في تغيير أنماط عيشه، وتغيير معايير تحديد حاجاته ورغباته. لأنك تعيش في عوالم فوقية إذا كنا سنستعير مرة أخرى إحدى تعبيرات أرسطو. هناك تتجول وفي يدك اليمنى مصباح على غرار ديوجين، وفي اليسرى تحمل مروحة كبيرة لتلطيف نسائم غرفتك. تلك الغرفة غير المرئية التي تمنحك البهاء كله.

العزيز سليم بركات، ها هو العالم يغرق مرة أخرى. الآن ظهر ضعف الانسان من جديد، كما ظهرت قلة حيلته. فلا لقاحات في الأفق تنجيه من هاته الجائحة. لذلك فلا أحد يعرف كيف سينتهي هذا الكابوس الأصفر المليء بالطلاسم، والتي لا يمكن حل شفرتها، على الأقل الآن. ها هو العالم ينزع قبعته ويتنازل عن كبريائه، ويرفع أياديه إلى السماء مثلما كان يفعل المحاربون القدامى وسط المعارك الضارية التي لا قبل لهم بمجاراة حرارة وطيسها. ها هو العالم يتحول إذًا الى قزم صغير يصرخ بشكل عال، ولا أثر لصدى هاته الصراخات. فكلنا الآن نختبئ داخل غرفنا ونحدق طيلة الوقت في شاشات التلفاز، التي أصبحت كالملاذ الأخير، لعلها تأتينا بالخبر المعجزة.

وفي الختام تقبل مني أجمل التحايا وأصدق المنى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مترجم سويدي: لماذا يغيب سليم بركات عن البوكر؟

ترجمة إسبانية وكتالونية لرواية "فقهاء الظلام"