14-ديسمبر-2015

مسلمون يتضامنون مع ضحايا خجمات باريس (Getty)

تدرك النخبة الفرنسية تمامًا أنه لم يعد سهلًا عدم الاعتراف، فالتطرف لم يعد بعيدًا ومستوردًا، وخارجًا عن محيط أولاد هذا المجتمع. إغلاق الحدود والعيش خلف الأسوار لن يحمي مدينة الأنوار وسواها من أية هجمات قادمة، فداعش لا يرسل أحدًا لشن هجمات، بل ينتقي شبابًا فرنسيًا غاضبًا ليحقق رسائله الدموية. 

داعش لا يرسل أحدًا لشن هجمات، بل ينتقي شبابًا فرنسيًا غاضبًا ليحقق رسائله الدموية

الوقوف بتمعن أمام خيارات النخبة، في التواري أو التظاهر، لم يعد مقبولًا. والقول إن المشكلة هي مع الإسلام واللاجئين القادمين من مجتمعات إسلامية، ودرسوا في مدارس دينية أو اقتادهم الدين إلى المساجد، فهو ايضًا ذريعة هشة. النظرة المسطحة لا فائدة مرجوة منها، وتبقى سريعة العطب، إذا ما تم التباحث في نقاط أكثر جدلية، تصب كلها في "أسلمة" التطرف. 

انتهاز داعش فرصته الذهبية لكسب "الجيل الثالث" من الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية، والذاهب "بعضه" إلى أفكار التطرف ومعانيها، ليس إلا استمرارًا لتعبير هذا الجيل عن عدم انتمائه إلى المجتمع، وشعوره المفكك بالارتباط النفسي والثقافي فيه. فهذا الجيل لم يعش في المغرب أو تونس أو الجزائر. ولد في فرنسا ودرس في مدارسها العلمانية، ويرتدي بزاتها الغربية ويستمع إلى مغني الراب في ضواحيها. هو ابن البيئة الفرنسية، لكنها بيئة محطمة ومنسية. والأغرب تمامًا أن النخبة الفرنسية تتناسى أن هناك فرنسيين من قرى بعيدة ومتروكة، يلتحقون بداعش ويدخلون الإسلام. 

هؤلاء الذين لم يتعرفوا إلى أية بيئة مسلمة ولم يعرفوا من دينهم الجديد شيئًا سوى أن عدوهم هو الآخر، المختلف عنهم، المسلم المعتدل والمسيحي المتدين والمرتد، والملحد في رأس القائمة. يحركهم نزاع داخلي، وتحقق لهم هذه المجموعات المتطرفة، ثورتهم الشخصية بعد إحباط كبير. وهو ما يسمى بـ"الجيل الثاني" من المسلمين ومعتنقي الإسلام من الأصول الفرنسية. وهذه الموجة ليست جديدة. فقد أيد آباء هؤلاء هؤلاء "القاعدة"، وساهموا في دعم المجموعات الإسلامية الجزائرية في فرنسا في العام 1995، وقاتل بعضهم في البوسنة وأفغانستان والشيشان.

كسب داعش للفرنسيين من أصول مغاربية ليس إلا استمرارًا لتعبير هذا الجيل عن عدم انتمائه إلى المجتمع الفرنسي

الجيل الثالث لا ينتمي إلى إسلام أهله. هو ابن جيل عاش الملذات وتعاطى المخدرات وبذر ليال كثيرة في الملاهي الليلية، وبعضهم دخل السجن أيضًا، وفجأة يلتحق هؤلاء بركب "السلفية" الجهادية. وهو ما يحول فورًا بينهم وبين أهلهم، فالأهل المتدينون بشكل عفوي وبالتزام معتدل لا يرغبون بهم، وشعورهم أنهم يعيشون في بيئة "كافرة" و"مرتدة" ومنغمسة بـ"الرذائل" يهدفون إلى محاربتها، يزيد من هذه العزلة الفكرية. فيلجؤون إلى مفاهيم "رجعية" ملتبسة في الدين، لا قدرة لأحد على تفسيرها إلا بمنحاها المتطرف. يستغلهم في ذلك مشايخ على ارتباطات كثيرة. وتصبح الدعوة الى الإسلام بهذا المعنى دعوة الى اسلام "متطرف"، وفق رؤية رجعية، يدخل فيها الفرنسيون المتأسلمون الجدد. 

التفسيرات الثقافية المتناولة في الإعلام وبين الأوساط النخبوية تبقى محصورة بمفهوم استعماري، بمعنى أن ما يتم قياسه يستدل فقط إلى قراءة استشراقية للظاهرة، أو يتم إلحاقها بنظرية "عجز الإسلام" عن مواكبة العصر، وعدم قدرته على الاندماج مع العالم الحديث والمتطور، وهو بذلك موغل في ظلاميته. ويبقى التناسي المقصود وعدم الاعتراف بـ"التهميش" الواقعي في المجتمع الفرنسي، و"العنصرية" المتفاقمة بين شرائحه هو السلاح الذي تقدمه الدولة الفرنسية إلى "داعش" ومثيلاتها. 

اقرأ/ي أيضًا:

هجمات باريس.. تعليق على ما حدث

ماذا لو فازت لوبان برئاسة فرنسا؟