22-سبتمبر-2023
تشيخوف وروايته (الترا صوت)

تشيخوف وروايته (الترا صوت)

يُعرف أنطون تشيخوف بقصصه القصيرة البارعة وبعض مسرحياته التي أُعيد تدويرها في المسرح والسينما والتلفزيون، ولكن يختبئ في أرشيف أعماله جوهرة غالبًا ما تفلت من دائرة الضوء، وهي روايته الوحيدة الكاملة "جريمة في حفلة صيد"، التي يرسم فيها ببراعة صورة حية للأرستقراطية الروسية والطبقات الدنيا، ويتعمق في حياتهم وعلاقاتهم، ويقدم نظرة ثاقبة للتغيرات والتوترات المجتمعية في ذلك الوقت.

عمّ تدور الرواية؟

تبدأ الرواية برئيس تحرير إحدى الصحف الذي يعاني مع رواية صغيرة الحجم وقعت بين يديه. إنها قصة عن جريمة قتل كتبها رجل متواضع يدعى إيفان بتروفيتش كاميشيف، وقدّمها له على أمل أن تُنشر. كاميشيف محقق قضائي سابق لا يسعى إلى المجد الأدبي أو الحصول على مكانة أدبية، بل يسعى وراء شيء ملموس أكثر، وهو المال، خاصة أن روايته مستوحاة من تجربته المباشرة مع قصة قتل حقيقية شهدها وكان أحد شخصياتها، أو على الأقل هذا ما قاله.

تستكشف رواية "جريمة في حفلة صيد" الرغبات والدوافع الإنسانية وما الذي الذي قد نصل إليه بعد التأرجح بين الملل والرغبة

تتبع الرواية مسارين زمنيين مختلفين، نتابع في المسار الأول رئيس التحرير نفسه الذي يتصارع مع مشاعر مختلطة بعد قراءة مخطوطة كاميشيف، ويقرر في النهاية ألا ينشرها، ثم يُمرر لنا الرواية ويتركنا لتحديد ما إذا كان محقًا في قراره أم لا، والأهم ما إذا كان له ما يُبرره. كما يتسنى لنا أن نرى ملاحظاته على السرد.

أما الخط السردي الثاني، فيعيدنا إلى حكاية كاميشيف وهو يروي جريمة القتل، ويقدم لنا لمحة حميمة عن حياته كمحقق قضائي في ريف روسيا، ويُتيح لنا مشاهدته هو يتفاعل مع مجموعة متنوعة من الشخصيات التي تغطي مختلف الطبقات الاجتماعية، من الخدم المتواضعين إلى ملاك الأراضي الأرستقراطيين، ومن ضمن هذه الشخصيات نرى أولينكا ضحية جريمة القتل بعيون ثلاث أشخاص وقعوا في حبها كلٌ بطريقته، ومن ضمنهم الراوي.

الملل والرغبة

يرى الفيلسوف آرثر شوبنهاور أن الحياة البشرية تتلخص في التأرجح بين قطبي الرغبة والملل. الإنسان يشعر بالملل وبأنه يفتقر إلى شيء ما ومن ثم يبدأ بملاحقته، وقد يعثر عليه أم لا. إن لم يعثر عليه سيظل يشعر بالملل، وإن عثر عليه لن يُجلب له الأمر الرضا الذي توقعه، ومن ثم سيشعر بالملل مرة أخرى فيحدد لنفسه هدفًا آخر وهكذا. وبينما قد تبدو وجهة نظر شوبنهاور حول هذا التذبذب البشري قاتمة، إلا أنها تتناغم بشكل واضح مع تصرفات الشخصيات في رواية تشيخوف.

خذ على سبيل المثال كاميشيف الذي يبدأ يومه بصرخات ببغائه عن "رجل قتل زوجته"، فيستهزئ به قائلًا إن هذه الجرائم لا تحدث إلا في الروايات، وأن في بلدته الصغيرة تكفي جرائم السطو وانتحال الشخصية، ونرى في روتينه اليومي الملل التام الذي سيتغير عندما تصله رسالة بمجيء الكونت الذي يرغب في رؤيته.

وبالرغم من تحذير خادم كاميشيف بعدم الذهاب حتى لا يعود إلى السلوكيات الخاطئة التي تثيره فيها أحوال الكونت وقصره، يذهب كاميشيف ويقع في شرك شبكة من الكحول والفجور، لا سذاجةً منه بل نتيجة شوقه إلى أجواء القصر بالرغم من كرهه للكونت واحتقاره له. يجسد هذا التحول فلسفة شوبنهاور عن الدورة الدائمة من الملل والرغبة والسعي وخيبة الأمل في نهاية المطاف عندما استيقظ بعد يومين.

ويتكرر الأمر مع الشخصيات جميعها، مثل أولينكا التي سئمت من الفقر ومن رعاية والدها المريض فتقرر الزواج من أوربينين العجوز مدير أعمال الكونت، في مشهد يشبه لوحة "زواج غير متكافئ" للرسّام الروسي فاسيلي بوكيريف، ولم تُدرك أولينكا ما أقدمت عليه إلا بعد إتمام الزواج واكتشاف حُبها لشخص آخر، وما أن تعتاد وضعها الجديد حتى تشعر بالسأم منه وتتأجج لديها مشاعر أخرى. كما يثير موقف أولينكا وقراراتها على مدار الرواية تساؤلات عدة حول تعقيدات الرغبة والتوقعات المجتمعية.

يرسم تشيخوف في روايته صورة حية للأرستقراطية الروسية والطبقات الدنيا ويتعمق في وصف حياتهم وعلاقاتهم

أما الكونت، فيمُثل كل ما قد تتخيله عن الطبقة الأرستقراطية الروسية المتدهورة في أواخر القرن التاسع عشر، فهو مالك أرض لا يهتم بها، لديه موظفين يسرقونه ولا يبالي، يعامل النساء كأدوات للمتعة فقط، ويكمن فخره في إعداده للحفلات حتى يُعدّ في النهاية حفلة صيد تنقشع فيها الأغطية وتظهر المخالب، فيبدو مشهد الجريمة في النهاية، بالرغم من قسوته، نتيجة حتمية لما يعتمل في النفوس.

"جريمة في حفلة صيد" أكثر من مجرد رواية غامضة أو بوليسية؛ إنها استكشاف عميق للرغبات والدوافع الإنسانية، والمدى الذي يمكن أن نصل إليه بعد التأرجح بين الملل والرغبة مرارًا وتكرارًا.