22-سبتمبر-2023
الكاتبة هيرتا مولر

(Getty) الكاتبة هيرتا مولر

التّكثيف في الشّعر، الصّراحة في النّثر، تصوير حياة المحرومين، هكذا وصفت الأكاديميّة السويديّة -المشرفة على جائزة نوبل- الكاتبة (ألمانية اللّغة رومانيّة الأرض) هيرتا مولر، حين حصلت على الجائزة في عام 2009.

كتبتْ مولر في الشّعر والنّثر، وأبدعت في كليهما، لكنّها وجدت في النّثر وخاصّة الرواية متنفسًا كبيرًا لتفريغ ويلات القمع الذي تعرّض له العديد من الكتّاب نتيجة سياسات الأحزاب الشموليّة، ففي رومانيا أرض مولر ومكان عيشها سيطر الخوف في فترة حكم الدكتاتور نيكولاي تشاوتشيسكو زعيم الحزب الشيوعيّ الّذي حكم رومانيا في أعوام 1974 - 1984.

أبدع ما قالته مولر عن وصف الخوف في ظل الأنظمة الدكتاتورية: "الخوف اليوميّ في كلّ صباحٍ ألّا نعيش إلى المساء". ومن هذا الخطاب شكّلت مولر حالة سرديّة لذاتها، فجاءت أعمالها الروائية وفق ثيمة الخوف ومرتكزة حول الحبكة المأساوية في إطار التّجربة الشّخصيّة، لذلك يمكن تسميّة روايات هيرتا مولر بروايات التجربة السرديّة، أي أنّ السّرد حالة حقيقة عاشتها الكاتبة في بناء الرواية الكليّ من حيث الشّخوص، والزّمان، والمكان، وبنية الحبكة المتواصلة.

كتبتْ مولر في الشّعر والنّثر، وأبدعت في كليهما، لكنّها وجدت في النّثر وخاصّة الرواية متنفسًا كبيرًا لتفريغ ويلات القمع الذي تعرّض له العديد من الكتّاب نتيجة سياسات الأحزاب الشموليّة

قدّمت مولر العديد من الرّوايات وفق بناء سرديّة الخوف التكثيفية، منها: أرجوحة النّفس، وحيوان القلب، والأخيرة هي الرواية التي ترجمها النّاقد مايكل هوفمان بعنوان "أرض البرقوق الأخضر" (The Land of Green Plum) عام 1997، وترجمة إلى العربيّة بعنوانها الألمانيّ الأصيل "حيوان القلب" للمترجم علي منصور.

تتميّز ثيمة الخوف عادةً في وجود صراع، في رواية حيوان القلب يجد القارئ الصّراع في تطوّر ليصل إلى حدّ المرض والاكتئاب؛ فشخوص الرّواية عايشت حقيقة الخوف في ثلاثة صراعات متنوّعة: الصّراع مع الآخرين بوصفه صراعًا اجتماعيًّا، الصراع مع السّلطة بوصفه صراعًا سياسيًّا، والصّراع مع الذّات بوصفه صراعًا نفسيًّا. والعديد من هذه الصراعات تشكّلت في ضوء حافز واحد سيطر على إيقاع سرد للشخوص وهو حافز الخوف.

لولّا فتاة في بدايتها الجامعيّة عايشت الخوف بعلاقتها الأولى بالحزب الشمولي، حاولت أن تكون بولاء مطلق للحزب، حياتها الشّخصيّة كانت هروبًا من ذاتٍ قلقة دون خطيئة إلى ذات قلقة بخطيئة. كانت تنتظر العائدين من أعمالهم الصّعبة خصوصًا عاملي المسالخ لتمارس معهم الرّذيلة، تظنّ أنّها بتلك الرذيلة تخفّف من ألم الخوف المستمر مع أنّها طالبة تدرس اللغة الروسية، علاقتها مع مدرب الجمباز في الجامعة كانت علاقة غرامية، وفي نهاية تلك الصّراعات وجدت لولا مقتولة، ولأنّ الحق مفقود في ظل سلطة القمع كان المتهم الأول لموت لولا هي نفسها أي أنّها انتحرت. الغريب أنّ شخصية لولا عانت من الهامش الموجع من خلال فصلها من الحزب بعد انتشار خبر انتحارها، فما فعلته لولا لقتل نفسها كان خطيئة وجب أن تبقى ليخاف الآخرون، تصف مولر مشهد طرد لولا من عوالم الحياة: "لقدْ خيّبتْ ظنّنا كلّنا، ولا تستحق أنْ تكون طالبةً في بلادنا، وعضوًا في حزبنا... فصفّق الجميع لم يجرؤ أحدٌ أن يكون أوّل من يتوقف عن التّصفيق".

ثيمة الخوف تستمر في كسر الحالة السردية نحو ظاهرة وصفية للوصول إلى الحريّة ففي الموافقة على فصل لولا من الحزب ظهرت سرديّة الخوف بالمشهد الآتي: "المجانين وحدهم منْ يمتنعون عن رفع الأيادي في القاعة الكبرى لأنّهم نجحوا في استبدال الخوف بالجنون التام".

العنصر الأنثويّ الآخر في الرّواية هي تيريزا، بدأت ثيمة الخوف عندها في خيانتها؛ فالخيانة لا تعني الطمأنينة، الخيانة تعني الخوف المستمر، تيريزا في علاقة صداقة مع الرّاوية، وفي الوقت نفسه تعتاش على الخيانة وذلك في علاقتها مع النقيب بيله وتقديمها معلومات للأمن السرّي. الغريب أنّ نهايتها كانت من خلال مرض السرطان، وهذه النهاية لم تعط القارئ تعاطفًا مع الشخصية إذ إن ثمن الخيانة عالٍ جدّا. الراوية جعلت من حبّها لصديقتها عنصرًا قاتلًا لحالة الخوف، يأتي القلب هنا ليتمثل بالحيوان الهادئ الطيف الذي كانت تبحث عنه الكاتبة في روايتها.

استمرّت المعاناة بين ما تكتب وبين ما وجب عليك أن تبتعد عنه، وذلك من خلال أصدقاء الراوية للقصّة وهم "غيورج، إدجار، كورت" وهم مع الرّاوية في المعاناة والكتابة، ورغم هجرتهم من رومانيا إلى ألمانيا ظلّ تسلّط أمن الدكتاتور على من يفكّرون ويكتبون لحريتهم، كلّهم فكروا في الانتحار، فالأجساد لا تقوى على البقاء إذا كان القلب الدّافق خائفًا. كانت الاستمرارية بالمعاناة بعد وفاة غيورج منتحرًا وذلك بعد مغادرته ألمانيا.

من ظلّ حيًّا لم ينج من الموت، لكنّه نجا ليقول ما يصنعه الخوف في أجساد حلمت بحريّة الكلمة، فكان الحلم قبرًا في مقبرة الخوف، ولتكون الحريّة شجرة برقوق تقتل من يأكل منها، وتبقي من يدافع عنها: "إذا لزمنا الصّمت أثرْنا الضّجر، وإنْ تكلّمنا ضحكوا عليْنا".