ما الذي سيخطر في بالك حين تسمع عن فكرة السفر عبر الزمن؟ ربما سيمر بمخيلتك سلسلة أفلام "Avengers" التي يبدو أنها لا تنتهي أبدًا، أو ربما تذكرت آمالك بالعودة إلى زواج والدتك ووالدك لإفساده وكأنك لم تكن، وربما تكون قد سئمت من الفكرة كلها بعدما ثبت استحالتها علميًا وقررت الاستسلام للواقع والتوقف عن التخيل.
لكن ماذا لو أخبرتك عن حكاية مقهى هادئ يُتيح إمكانية السفر عبر الزمن إلى الماضي لبضع دقائق، وكل ما عليك فعله هو طلب كوب من القهوة؟
الوقت وتأثيره في حياة الإنسان هو الموضوع الرئيسي لرواية "قبل أن تبرد القهوة" التي تذكّرنا بأهمية وقيمة العيش في الحاضر
هذه هي باختصار قصة رواية "قبل أن تبرد من القهوة" للكاتب الياباني توشيكازو كاواجوتشي - صدر منها ثلاثة أجزاء لكننا بصدد الحديث عن الجزء الأول فقط - التي تتناول فكرة السفر عبر الزمن، لا لإنقاذ العالم أو تغييره أو لكشف أسرار الكون، بل لطرح سؤال أكثر عمقًا، وهو: ماذا لو كان بإمكانك إعادة النظر في الماضي، ليس لتغييره، ولكن لفهمه بشكل أفضل؟ ماذا لو تمكنت، أثناء تناول فنجان قهوة مشترك، من سد الفجوة بين الأمس واليوم، بين الندم والغفران، وبين الوقت الضائع والمنظور الجديد؟
وماذا لو كان السفر عبر الزمن بسيطًا كالجلوس في زاوية مريحة بالمقهى واحتساء القهوة؟ تُذكِّرُنا هذه الرواية أنه في بعض الأحيان، يمكن أن تبدأ المغامرات الأكثر استثنائية بشيء عادي مثل استراحة لتناول القهوة.
فهم الماضي بدلًا من تغييره
تدور أحداث الرواية في مقهى جذاب في طوكيو لديه كرسي غامض يسمح للعملاء بالسفر عبر الزمن. يبدو الأمر بسيطًا، لكن توجد قواعد صارمة تحكم هذه الرحلات، وأبرزها أنه يجب على المسافرين العودة إلى الحاضر قبل أن تبرد قهوتهم وإلا فإنهم يخاطرون بالبقاء في الماضي إلى الأبد، وأيًا كان ما سيحدث في الماضي لن يُغير في الحاضر شيئًا.
هذه الفرضية التي تبدو بسيطة تمهّد الطريق لسلسلة من القصص المؤثرة والمُغيِّرة للحياة. فالرواية تتبع حياة العديد من روّاد المقاهي الذين يتصارعون مع ندمهم ورغباتهم التي لم تتحقق. ومن خلال رحلاتهم يغيرون مستقبلهم، لا بتغيير مسار الماضي ولكن بإعادة النظر في ماضيهم، فتكتسب الشخصيات نظرة ثاقبة لحياتها وعلاقاتها، إذ يواجهون مواقف لم يتم حلها، ويتصالحون مع خياراتهم، ويجدون الخاتمة. لذلك فإن الرواية توضح، بشكل جميل، كيف يمكن لتصورنا عن الماضي أن يُشكِّل حاضرنا ومستقبلنا.
يركّز كل فصل من فصول الرواية على رحلة فرد مختلف إلى الماضي، ما يجعلنا كقرّاء نتعرف بشكل وثيق على رغباتهم وأحلامهم ومشاعرهم المعقدة. والأهم ما يؤرقهم في ماضيهم، من امرأة شابة تحاول التواصل مع أختها البعيدة عنها، إلى امرأة تسعى إلى التواصل مع زوجها الذي يعاني من مرض الزهايمر، وتأمل أن تتمكن من خلال ذلك من مساعدته على تذكر ماضيهما معًا والتعبير عن حبها قبل أن ينساها تمامًا. تتصارع الشخصيات كلها مع مجموعة من المشاعر المعقدة التي بالتأكيد سنجد صداها في قلوبنا.
العيش في الحاضر
الموضوع الرئيسي للرواية هو الوقت وتأثيره في حياة الإنسان، وكيف يجب علينا ألا نأخذه كأمر مُسلم به، إذ تعد الرواية في جوهرها بمثابة تذكير مؤثر ومؤلم ودافئ بقيمة العيش في الحاضر، إذ تؤكد الرواية على أهمية الاعتزاز باللحظات التي تحدد حياتنا وأهمية الروابط الإنسانية، وتحث القراء على اغتنام فرص المصالحة والتسامح والحب التي غالبًا ما يتم التغاضي عنها في صخب الحياة اليومية.
توضّح الرواية بطريقة جميلة كيف يمكن لتصوّرنا عن الماضي وفهمنا له أن يشكّل حاضرنا ومستقبلنا
إذ تستكشف الرواية تعقيدات العلاقات الإنسانية وعواقب اختياراتنا، ويلقى هذا الموضوع صدى لدينا لأنه يدفعنا إلى التفكير في حياتهم الخاصة، والندم، والاختيارات التي اتخذوها من خلال رحلات شخصيات الرواية التي نشهد فيها نموهم وآلامهم وتحولهم وشفائهم العاطفي، ما يُسهل علينا التعاطف مع نضالاتهم وانتصاراتهم، والحذو حذوهم.
إنها، بعبارة أخرى، استكشاف جميل للزمن، والعواطف الإنسانية، والقوة الدائمة للحب والتعاطف برقة شديدة تعطي للقراء فرصة للتأمل في حياتهم وعلاقاتهم، وتشجعهم على تذوق لحظات الحياة العابرة قبل أن تبرد القهوة.