15-ديسمبر-2023
فرجينيا وولف وروايتها السيدة دالواي (الترا صوت)

فرجينيا وولف وروايتها (الترا صوت)

تبدأ الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف روايتها "السيدة دالواي" (بيت الياسمين، 2020/ ترجمة بسمة ناجي) بالحديث عن امرأة خمسينية تريد أن تقيم حفلًا راقيًا لوجهاء المجتمع اللندني. تبدو لنا القصة تقليدية، وهذا ما تبين لي في بدايتها، ولكن الكاتبة أثبتت العكس فيما بعد، فالرواية تبدأ بجملة عادية في بداية الأمر، ولكنها مشوقة: "قالت السيدة دالواي إنها ستتولى شراء الزهور"، وتنتهي بعبارة ترد على لسان الشخصية الرئيسة: "ما الذي يثير بداخلي هذا الانفعال الهائل؟ قال إنها كلاريسا، إنها هناك". وما بين هاتين العبارتين الكثير من الأحداث التي تكتسب الرواية أهميتها بفعلها.

كتبت وولف قصتها اعتمادًا على ماضٍ عاشته مع أناس هجروها وهجرتهم. وقد افتتحتها بالحديث عن الشخصية الرئيسية وهي "بيتر والش"، الذي كتبت تقول عنه: "الغريب أن المرء قد يتذكر أقواله، عيناه، مطواته، بسمته، مشاكسته، وكلمات تافهة كهذه عن الكرنب، بينما تغيب تمامًا ملايين الأشياء الأخرى".

تحكي فيرجينيا وولف في روايتها قصصًا عدة حول الحب والحرب والهجران وعادات وتقاليد المجتمع الإنجليزي

روايتنا إذًا عن بيتر والش، لكنها أيضًا عن شخصيات أخرى كثيرة. كما أن الماضي يشكّل في الرواية عنصرًا ثابتًا ومتزامنًا مع خطها الرئيسي الذي يتمثّل في الحفل الذي سيُقام في "ويستمنستر"، إحدى شوارع لندن الهادئة.

تبدأ قصص الماضي بالظهور مع شخصية "هيو" الذي تلتقيه الراوية أثناء تجوالها في شارع فيكتوريا، وتقدّمه كشخصية متملقة غبية بعض الشيء، إذ تقول عنه: "غالبًا ما كان يبالغ في هندامه، ويجدر به أن يفعل، مع وظيفته البسيطة في البلاط". ثم تصوّر لنا كيف تكون الحياة عادلة مع عديمي الخبرة في إطار ساخر، وتلخّص كذلك سلوك شخصيتها بجملة: "لم يكن سوى سلوك وتربية رجل إنجليزي".

تركتني شخصية بيتر، أثناء قراءة الرواية، بحالة شاعرية يائسة أود التعليق عليها بجملة كتبتها في أحد نصوصي، وأرى أنها تعبّر عن ملحمة الحب بين كلاريسا وبيتر: "أقلم الأزهار البيضاء الموجودة في المنزل بمسننات برّاقة كأنها يدان تحفان صدري الذي بات مقبرة للزهور".

كلاريسا والعائلة المرموقة كالمسننات البراقة، ومقبرة الزهور كعواطف بيتر والش. ولا بد هنا من إكمال الاقتباس بحديث البطلة مع نفسها مطلع الرواية: "ولأنهما قد يفترقا لمئات السنين، هي وبيتر؛ فلم تكتب له أبدًا (...) ماذا سيقول لو أنه معي الآن، أيام بعينها، مشاهد بعينها".

ترسم الكاتبة ملامح بيتر بوصفه شخصًا بعيدًا عن تقاليد المجتمع الإنجليزي، وتنسج من خلاله علاقة حب شديدة الشاعرية في الرواية. إلا أن هذه الحكاية متناقضة في كثير من المشاهد، فالكاتبة تصف بيتر من خلال السيدة دالواي بالرجل العاطفي المتدخل، أما ريتشارد بالرجل الذي منحها الأمان.

والسؤال هنا: هل من الممكن أن نتخلى عن الحب المطلق في سبيل تفاصيل أخرى؟ وهي فكرة تطرحها الكاتبة بكثرة قائلةً في أحد المشاهد: "يستلزم الزواج بعضًا من تحرر، بعضًا من استقلالية بين من يعيشون في حياتهم اليومية معًا في بيت واحد".

وقد عرضت الكاتبة في منتصف روايتها فكرة تتمحور حول التقدم في العمر من جهة، والندم على أخطاء سابقة من جهة أخرى. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تتاح لنا الفرصة لأن نعود إلى الوراء، لمرحلة ما، لتصحيح ما اقترفناه من أخطاء؟ يمثّل هذا السؤال تجربة تركتنا الكاتبة نخوضها مع الخطيئة الأكبر من وجهة نظرها، وهي الهجران. تقول في إحدى صفحات الرواية: "عاش كل منهما في الآخر".

تُدخل الكاتبة إلى روايتها خطًا جديدًا يتمثّل بالحرب العالمية الثانية، حيث صوّرت خلال رحلتها إلى لندن معاناة الناس في أحياء المدينة وضواحيها، مستعرضة شخصية جديدة عائدة من الحرب، وهي شخصية "سبتموس" الذي كان يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، وذلك بسبب ما شاهده خلال المعارك التي خاضها مع صديقه الذي مات بدوره أمام عينيه محترقًا.

فرجينيا وولف

حُفِرَ مشهد الموت في عقله ليعيش ما تبقى من حياته مع إحساسه بالذنب وصدمته التي تدفعه للتفكير بالانتحار الذي أقدم عليه في النهاية أمام زوجته.

سبتموس شابٌ رقيق يهوى شكسبير وبودلير ارتبط بفتاة إيطالية تدعى "لوكريتسيا" تعمل في خياطة القبعات للبائسين، وتنتظر فرصة أن تقوم بخياطة للأغنياء كما حدث في المشهد الذي سبق انتحار زوجها الذي ساعدها بخياطة قبعة فاخرة. كانت تحب ذوقه الرفيع كَشِعرِهِ ورسمه، لكنه مات منتحرًا في نهاية المطاف أمام عيني طبيبه الساخر الذي شَخَّص حالته بالمزاج المنحرف.

لِنَعد إلى الخط الأول في الرواية، وهو حفل كلاريسا سيدة المجتمع الراقي، التي تُصعَقُ بخبر عدم مجيء ريتشارد دالواي لمشاركتها في تحضيرات الحفل، وأنه سيتناول طعامه في الخارج مع ليدي بروتون. يترك هذا الحدث تأثيره على البطلة، ويدفعها إلى استعادة ذكرياتها فتأتيها ذكرى صديقتها سالي. تقول: "هذا الميل المتناقض للنساء ألم يكن حبًا؟". ذلك أن سالي ستيون تعد نموذجًا للمرأة المتحررة في المجتمع الراقي القائم على قوانين وأعراف واضحة.

تتشابك أحداث الرواية بزيارة بيتر والش لكلاريسا أثناء تحضيرات الحفل. وكم صدمني المشهد عند مشاهدته في الفيلم المأخوذ عن الرواية، إذ كان تجسيدًا لليأس والسنوات الضائعة، كأنها تقول في نفسها: لماذا تعود للماضي هكذا؟ لقد رأت الحرمان والهجران في نظراته، بينما أراد هو أن يخبرها بأنه أحبّ امرأة غيرها.

لم يقو أمامها على القول إنه مع امرأة أخرى لا يعيش الحب معها، وأن وجودها معه باهت كالظل. نقم عليها مجددًا بسبب ما فعلته في الماضي لأجل أن تحيا حياة الحفلات الفاخرة. وهنا لا بد من التساؤل: هل يجوز التخلي عن الحب في سيبل التفاصيل والخطوط الفارغة؟

توقفت الكاتبة عن حديثها عن بيتر في عدة صفحات لتتكلم عن ريتشارد دالواي، الرجل الذي تخلت كلاريسا عن بيتر من أجله لإحساسها بالأمان معه على حد تعبيرها، واصفة الكاتبة إياه بـ"الرجل الوقور". هكذا ظهر في مشهد الغداء الذي ذكّر الجميع بماضي كلاريسا وبيتر. وحين عاد ريتشارد إلى البيت حاملًا باقة زهور، كان مُلاحقًا بشعورٍ غريب، أنه خاسر ورابح في آن معًا. أراد الاعتراف بحبه، لكنه اكتفى بضم يديها.

تفكر كلاريسا بالسبب الذي يدفعها إلى إقامة حفلات فاخرة كهذه؟ تجيب نفسها قائلة ما معناه أنها: "قرابين". وأرى أن كلاريسا تقيم الحفلات قربانًا لحبها، لذاتها القديمة التي كانت ترى بيتر والش قربانًا تخلت عنه لتعيش حياة كهذه.

سأقف هنا عند مشهد أطلقت عليه تسمية (كلاريسا الذات الأولى في نظر بيتر: "كانت راديكالية حينها، لا تلاحظ شيئًا إلا حين تتوقف عن الحركة فتصيح لرؤية منظر طبيعي أو شجرة مثمرة".

هكذا كانت كلاريسا في ذاكرة بيتر والش. وبإمكاننا هنا التعليق على هذا المشهد، بالقول إن الندم على قرارات اتُخذت في الماضي أمر مميت. وربما بوسعنا تلخيص حكاية وولف بسؤال: هل نقوى على تغيير الماضي، أم أننا نحيا في ظلّه؟ البشر جبناء وأنانيون في سبيل كمالهم.

تختتم الكاتبة روايتها بمشهد من الحفل: "جالسون إلى موائدهم حول مزهريات، متأنقون أو غير متأنقين، بجوارهم شيلانهم وحقائبهم، بوقار زائف". في المقابل، كانت كلاريسا ترى وسط هذا الزيف الذي يزين حياتها بالأشياء المادية حقيقة واحدة لا ريب فيها، وهي أنه حفل بيتر والش: حبها الأزلي. كانت ترى الحقائق والزيف أمام حبها لترى حقيقتها على أكمل وجه.

لكل شخصية من شخصيات الرواية تجربتها مع المعاناة، سواء مع الحب أو الحرب أو المجتمع

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى مشهد آخر هو مشهد دخول سالي إلى الحفل الفاخر، وقد ظهرت أمام كلاريسا أقل جمالاً مقارنةً بصورتها في ذهنها، إذ كانت سالي في الماضي مثالاً للفتاة المتمردة التي لن تتزوج، لكنها تظهر الآن كربة منزل محاطة بخمسة أطفال، ويا لها من تضحية كبيرة في نظر كلاريسا.

تتصاعد ذروة الأحداث، أو نهايتها، بدخول السير ويليام وزوجته ليُخبرا الحضور بمقل سبتموس بحزن. تقف كلاريسا أمامهما مصعوقةً من الخبر، وقد وصفت الكاتبة شعورها بقولها: "حين تسمع فجأة عن حادث، يشتعل فستانها ويحترق جسدها". وحين تتساءل عن حقيقة الموت والحياة، تخلص إلى أن: "الموت عصيان".

تختتم وولف روايتها بالجملة التالية: "ماذا تعني أحكام العقل؟ قالتها ليدي روستر وهي تتأهب واقفةً، مقارنةً بالقلب؟". إنها لذلك، ولجميع ما سبق، رواية تجمع بين متناقضات عديدة.