22-مارس-2021

عمل فني لـ منذر جوابرة/ فلسطين

"لقد سَبقني على هذه الأرض بثمانِ سنواتٍ فقط، في مكانٍ آخر، ظروفٍ أخرى، لأكونَ بعد خمسينَ عامًا من عُمري جالسًا مع ابنه".

هذا ما عَلقَ في عَقلي بعد ليلة صاخبة، وسؤالٌ حادٌ تحتاجُ فيه إلى كلَّ ما تَعلّمت من مهارات الحِساب حين يفاجئك سؤالٌ عاديّ مثل؛ كم يبلغَ أباكَ من العُمر؟

تتلاشى كل فوارق الساسة حين يتقابلُ العاديّون. تتساقطُ الحدودُ كأنها هوامشٌ، تَنمَحي كلُّ نشرات الأخبار المؤدلجةُ وفق أهواء الممولين، تتعرى الحقيقة على ناصيةِ مُعتمة تنتظرُ سؤالٌ بسيط على شكلِ "هل أنتِ بخير؟" لتفضحَ كلَّ الخير الذي أشاعوه عنها وتركوها وحيدة، هُناك، لم يأبه بها أحد.

حينَ تُلَمّحُ الحياة لكَ بأنه هُناك صديقٌ حقيقيٌ ستقابلهُ في الصفحةِ كذا من القِّصة، فلتستعدَّ لها.

الأصدقاءُ عوالمٌ جديدة لا نعرفها، نُسَلمهم يدنا – بعدَ تجاربٍ – لفضولٍ يأكلُ أعمارنا غِيرةً، رُبما لأننا لم نعش ما عاشوه، ولم نكن معهم حين نَفِدَ وقودُ السيّارة التي حَملتهم من مدينة لأخرى، في قارّةٍ أخرى، في عالمٍ آخر، كُنّا فيه مجردُ أحلامٍ لزوجين لم يتقابلان بعد.

*

 

يُحدثني عن يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

في طريقه إلى فانكوفر، قُطعت إحدى الأغاني التي لا يتذكرها اليوم ليُذاع الخبر الصاعق، لم يكن خَبرًا مُسليًا لقضاء ما تبقى من وقتٍ في قيادةِ السيارة نحو مدينته، وبيته، فَصارً يبحثُ بين الإذاعات عن أغنيةٍ أطول ليبدد تشابهَ الإسفلت تحت العجلات، وحين انتبه أن الخبر ذاكَ كان صَاعقًا بما يكفي لاحتلاٍلِ دول جديدة، أطفأ محرك سيارته ليستمتعَ بالهدوء المُتبقي في الطريق، وفي الحياة.

يتشابه المزارعون في صفاتهم ولو فصلت بينهم قارات.

والأرضُ تُحبُّ من يُحبّها ويعمّرها لا من يؤذيها، وفي الشمالِ من هُنا، أيّ أقصى الشمال من هُناك – الهُناك الذي لنا – عائلةٌ تُعطي أرضها ما تُريدُ من طاقةٍ لتردّها لها على شكلِ حَياة. ولعلَّ الأرض تتكلمُ لغة واحدة، لكنها تفهمُ كل اللغات، فتتذكرنا.

*

 

أحيانًا، تتخذُ الأرجل قراراتٍ رَغمًا عن إرادتنا سنشكرها عليها بعدَ حين.

*

 

أن تحتفظَ العين بصورةٍ لمحَلٍّ ما، يُخزّنها العقل في مساحةِ الذاكرةِ سريعة الاستدعاء، وأن يتباطأ اليوم ليمشي دقيقةً واحدةً كلّ ساعة ويتنزه فضول التجرية في الرأس فيوحي لنا أن نعبر من أمامِ ذلك المكان فيُثيرُ فضولًا شرق أوسطي لنعرف ما هُنا، فيصيرُ حوارٌ ما بينَ أغرابٍ ومواطنين، مندهشين ومعتادين، متحمسين ومُطفَئين، ما بينَ نارٍ قادمة وجليدُ في الانتظار، ما بينَ بداية وبداية، حوارُ يقودُ إلى نافذةٍ جديدة، تُفتحُ من الجهتين.

ما المعنى أن تقرأ عن شيءٍ دون أن تجربه؟ ما جدوى تعلّمَ لغةً ما دون ممارستها؟ ما الفائدةُ من حفظِ تاريخٍ لم تسمع من أبنائه عنه شيئًا؟ ما الهدفُ من اعتبار أن "الهُنا" هو كلُّ شيء؟

- صوتي من يكتب الآن –

وجدتني حائرًا في إجابة السؤال البسيط؛ " من أين أنت؟".

فمهما كانت الإجابة، فإنّكَ لن تتوقف عند ذكر اسم البلد ونقطة، فلا بدَّ من سردٍ تاريخي بعدها، ولمنطقتنا ميزةٌ أو لعنةُ، لا أدري، فمنها بدأ كلُّ الأنبياء، وفيها حَلّت كلُّ الكوارث.

كأنها سقطت من دفاتر الله حين أعادَ كتابةَ سيرةَ هذا الكون.

- انتهى صوتي -

*

 

أن تتحالفَ قوى الجو، الوقت، المكان، الرغبة، الفضول، الدافع، الفراغ، الملل والمغامرة لتأخذكَ في طريق لم تختره فتقابلَ من كنت تَرغبَ أن تكونه لو أنّك ابنُّ هذه البلد، فهذه حَتمًا لن تَصير إلاّ برشوةٍ معتبرةٍ للقدر. لكن، لا قَدَرً هُنا لنرشوه، فتركناه بقشيشًا "للبارمان".

سؤالٌ بسيطٌ يستفزّك لتنبشَ التاريخ – تاريخك – لتأتي بالإجابة الصحيحة، وحين يكون السؤالُ من آخَرٍ لا يعلمُ إلاّ القليل مما تذيعه نشرات الأخبار، يُصبحُ السؤال امتحانَ حياة.

وإن كنتَ تعرف الإجابةَ الأنسب من تاريخٍ لُعبَ بأسفله فقد أحرزتَ هدفًا في مُباراةٍ طويلة، وإن لم تكن الإجابة في جيبك حينها، فإن ذلك السؤال البسيط كان سببًا في أن تتعلم ما لم تكن تعلمه، وقد حققتَ الفوزَ في نهاية هذا الدوري الطويل.

*

 

سأختصرُّ كل هذا؛

المصادفات التي ترميها الحياة في وجهنا، الطرق التي تختارها أرجلنا، القرارات السريعة التي نتخذها.. لا، ليست هذه.

لو كنت أعلم، في تلك الجلسة صيف عام 2018، في باحةِ بيتنا الخلفية، أنا وأحمد ومحمد، لو أن أحدًا منهم قال لي أنّني سأحظى بصديق كـ"مايكل" هُنا"، لما ترددت كلّ تلك المدّة في حجز تذاكر الطائرة.

أو، لربّما كنتُ أشعر بذلك، فترددت،

كي أرشوَ الصُدفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تحت سماء العفاريت

أعترفُ بأنّني كنت خطًأ