03-يناير-2019

تمام عزام/ سوريا

في لحظاتٍ معينة من حياتي، ثمّة فظائع تحدث في دهاليزي أشنع من كل جرائم وحروب هذا العالم الخارج، في داخلي أيضًا سجّان. لا أعرفه لكنّه بشعٌ حقير، يجلد داخلي مئة جلدة في كلّ مرة يدخل الهواء فيها إليّ. مثل شخص يرفض كلّ ما فيه. سجانٌ يتحكم بتضاريسي.

من داخلي أنا شخصٌ مقموع، خائف من هذا الكائن الذي اسمه أنا، ثمّة إخضاعٌ وإذلالٌ وكبتٌ وضحكٌ هستيري، في داخلي لست المتحكّم أبدًا، ثمّة أعراسٌ تقام في لحظاتٍ يكون فيها مظهري الخارجي حزين، ثمّة أتراحٌ تقام في وقتٍ أكون فيه بكلّ ما فيّ أضحك، هناك جزء أدفع كل عمري في سبيل أن أفمهمه لحظة واحدة، في داخلي ومهما كنت أستاذًا في الهروب ثمة آثارٌ ستظل تركض باتجاه ذاكرتي وتظل تعلق. في الليالي الأخيرة شاهدت أكثر من مرةٍ بيتنا في الحلم. بيتنا "نا" هذه الـ"نا" أتاري قديش إلها ثمن. ضمير الملكيّة، حتّى تلك الأخيرة ضميرها قد مات.

"نا" الملكيّة يعني أن يكون لنا بيتنا في حارتنا مع جيراننا في بلدنا، وكلّ "نا" تنسب إلى "نا" قبلها، كلّ "نا" ملكيّة ثمة بعدها ملكيةٌ أكبر. معادلةٌ تسبح في دهاليزي منذ وقت، كما أنه صار للضمائر مستنقعٌ في داخلي بعد كل الذي حدث.

في أحلامي أرى البيت، بيتي، أرى بصمات أصابعي على الجدران ملطخة بالحبر، والطبيب يصرّ على غبائه، التهاب في أصابعي أقول فيردّ: عّم تدللي؟! لكنّي حين تأتي في مخيلتي صورة بصماتي على الجدران أفزع، تلتهب يداي وتبتدأ أصابعي بالرقص بطريقةٍ هستيريا، ثمّة جروح في يديّ خلّلها الزمان، هذه البصمات منذ أكثر من ستة سنوات. وحدها في غيهب الليل، تسمع الأصوات، لا أصوات أصلًا، تسمع صوت الصمت، مرعبٌ بعد عمرٍ من الضجيج أن تظلّ عالقًا على جدارٍ بعد حرب. وتظلّ تسمع صوت الصمت.

في هذه الرسالة، أحاول أن أبرر خوفي منّي، عدم فهمي إياي، ربما الذي حدث، أو ربما الذي سوف يحدث، كلّ شيْءٍ في هذه الحياة مشكوكٌ بأمره، لست واثقة من اللحظات التي سوف تأتي، هكذا درّبتني اللحظات التي راحت. وهكذا سأظل. منذ مدة خرجت مع فتاة مغربية جاءت من إيطاليا إلى فرنسا منذ حوالي شهرين، جلسنا على أحد الكراسي، كرسي يتيم في حديقةٍ مفتوحة نهايتها على الكون أجمع، هكذا على الأقل بنظري أنا. المهم جلسنا وتحدثنا، قلت لها إنني لجأت من المخيّم، أنا من المخيم، هكذا قلت، لا من سوريا، وحين سألتني أين يقع هذا المخيّم، أظنها لم تفكر كثيرًا، لأنها لا تعرف هذا المصطلح من الأساس، كانت تسألني بوصف المخيم بلدًا، وطنًا، وطلبت منّي أن أحدده على الخريطة. الآن نحن المخيمجيين لنا وطنٌ وحيدٌ مستقل اسمه مخيّم يسبح في ذهن فتاة مغربية. دون أن أحدده، ما هو الوطن المخيم على الخريطة! أكملت كلامي لكنّ لحظتها، في تلك اللحظة أثناء حديثي عن المخيّم تذكرت فجأةً، ذلك اليوم الذي كان الأخير، آخر ليلةٍ لنا في ذلك البلد الأمين، حين سمعنا صوت المدافع الآتي من صوب شارع دعبول، وركض الجميع في لحظةٍ قالوا لنا في ما بعد أنه أشبه بيوم القيامة، لا أحد يعرف كيف سيركض الناس في ذلك اليوم، لكن في اليوم الذي ركضنا فيه هاربين من المخيّم كان ذلك مشهد نجاتنا، ختام أرواحنا.. ضحكاتنا.. يوم هربنا كان يوم قيامتنا الأخير، فلا عشنا بعد ذاك اليوم ولا متنا، آخرتنا حدثت، يوم القيامة الباقي والمنتظر، هو يومٌ لكم.

قد تكون هذه الذكرى الأخيرة هي التي تحوّلت إلى شخصٍ سجان في داخلي، هيّ الساطور والجزار والشرّ الممتلئ، وقد تكون ذكرى أخرى، قد تكون ذلك اليوم الذي علقنا فيه في درعا ومشينا اثنين اثنين من أصل 24 شخصًا على حسب رغبة القناص وشهوة عيناه مصيدة الموت. قد تكون تلك الليال المظلمات التي قضيتها في خيمة الزعتري، أو قد تكون حصيلة كل تلك الأيّام مما ذكرت ومما لم أذكر. كل الذي مرّ لم يمر وحسب، كل الأشياء تبقى، تصير في الأخير سجّانة في دهاليزي، جزارين أيضًا، أكوامًا من الحطب تحترق الآن في داخلي، فلتنعم كلّ الذكريات بالدفء، فليحترق قلبي الهارب المذعور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيروت.. علمينا كيف نكرهك!

كواليس مراسم دفني