07-أغسطس-2017

مقطع من لوحة لـ مازن كرباج/ لبنان

الكتابة جرحٌ تظل تكتبهُ بغيةَ تَقلص الورم فيه، ودون قصدٍ منكَ يكبر، يلتئم أكثر، فيصير عدة نصوص وجروحًا أعمق مثل قاع. حين أكتب ينبت جرح جديد، أخاف كثيرًا أن تبتلعني تلك الجروح بعد مدة.

بيروت يا عُمر الندى في آخر ملامح الفجر حين يُقبلُ خيام اللاجئين فيصيرُ بردًا، يا أول حضنٍ للبحر كانَ فيكِ، يا أجمل أنبل وأكرم وأقبح النساء، يا خد الصبيةِ حين صارَ حرامًا لأن شفاهًا مسيحية قبلت وجهها المسلم فجفت مياه الوجه في نظرهم فاضت في نظرنا، بيروت يا أول الخوف من أكل البلح والحذر من بذوره.. يا كل أعدائي المقربين يا حبًا جمًا يا سهلًا صعبًا يا قمرًا، يا ألطف جوعًا في الطرقات يا أرقى شبعًا من مذياع.

إنها الساعة الواحدة والنصف من ليل مذنب رغم أن الأشياء ليس لها منتصفٌ في بيروت، ركبتاي ثقيلتان واحدة منهما في آخر مرحلة من مراحل الثمل لأن مشيًا في هذه المدينة يُذهب العقل، والأخرى تشد أكوام من فرحٍ عليَ أن أتصنعه في أعيادٍ لاحقة.

بيروت حينَ تقهقر جيشُ الحزن فيكِ كانَ الفرح موالًا لفيروز، وحين نامَ الجميع كُنتِ وحدكِ ليالِ السهر، ولما الموت صارَ غشاءً فوق صبح المُدن غطى الفرح وانكمشَ الأمل، كنت الوحيدة، أنتِ ليس سواك، الدمع المتنكر مثل لصٍ بحباتِ مطر، أيتها الشقية التي ما ملّت يومًا من نبش الجمال من دهاليز هذا الكون، بيروت محل الباء فيكِ بردٌ والياء ينحنيـ ويغطي الراء رعدًا والواو وعدًا والتاء فيكِ تاه العمر، وما عرفنا كيفَ ننجو يا قبيلة من النساء الجميلات، يا كومة ضحكِ الصبايا يا هول الفاجعة. 

كانت بيروت تأتي إلينا، كنت أراها آخر ملامح الفجر في الشام، وغصن البان في حوران، وذنب الليل في حلب.. انظري كيف يخضرم العمر المرء فيصير يقوى على مسك زمام الأمور من قلم، أحاول أن أكتب لكِ مُذ كنت أبلع البلح دون الخوف من بذوره، كان عُمري عشرة أعوامٍ شامية من صنع الله وبيروت معًا، حين كتبت على أول ورقة في الدفتر "جُمان السورية اللبنانية" أذكر كيف ضحكت المعلمة بوجهٍ غضبان يومها، "جمانة شو هاد اللي مكتوب، اكتبي اسمك منيح وشقي الورقة". غافلتها يومها، أخذت الورقة قبلتها ووضعتها في جيبي، ضاعت الورقة لكنَ حبًا لم يذهب سُدى، وظللت أبحث عن تفسير منذ ذلك اليوم، من الذي رمى بيروت في عمق فؤادي ورحل؟

لأن ريحًا من بيروت تأتينا دون سفر امتلأت رئتاي بهوائها العلقم. تسألينَ من أنا؟ أنا السورية من درعا كبرتُ وأبي عمود المنزل في المخيم، والمخيم عمود هذا الكون معكِ.. أنا السورية يا بيروت تذكريني، فلا طحين فيكِ منشقًا عن طحين الشام ولا ماء تصبُ بعدَ عطشِ إلا وكانت ذات الشمس تحرقنا وتثير الظمأ في حناجرنا، تخيلي نحنُ ذات الظمأ يا بيروت، وذات الحزن ما أختلفَ يومًا، وذات الله فيروز، والأذان الصاغية نفسها.

لا أستطيع أن أكره بيروت، سيظل حُبها يخلف أسئلة، لماذا وكيف، وسأظل كل العمر كما كتبت في ورقة العشرة أعوام، سورية لبنانية، سيظل حب الطفلة بيروت وحب الشابة فيني بيروت، إلى أن أشيخ وتذبل العروق التي تضخ حب الشام وبيروت في يداي، سأظل أسأل.. بيروت. يلعن "..." علمينا كيف نكرهك؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

من هنا تبدأ الثورة

ثلاثة مقاطع لابتذال الانتحار