18-يونيو-2017

سنان حسين/ العراق

1

كانت الطائرة، وهي تتوغّل في السّماء إلى مدينة تمنراست، في أقصى الجنوب الجزائري، من عام 2010، شبيهةً بقصيدةٍ محلّقةٍ. لكنّها قد تتوقف في أيّة لحظةٍ، فأتحوّل إلى مجرّد رقمٍ في حصيلةٍ يُقدّمها مدير الطيران. يومها كانت تشبيهاتي ذاتَ روحٍ شعريةٍ، رغم أنّني أصدرت تجربتين سرديتين هما "أجنحة لمزاج الذئب الأبيض"، وجلدة الظل: من قال للشمعة أف؟".

 

2

كنتُ مدعوًا من طرف خادم الفنّانين محي الدّين بن محمد، قدّس الله سرَّه، لإحياء جلسة أدبية في دار الثقافة. ومن عادتي ألا أنام في الليلة الأولى، التي أدخل فيها مدينة لم أزرها من قبل، فالأمرُ يُشبه عندي أن ينام عريس في ناصية الليلة الأولى مع عروسه. فخرجتُ إلى المدينة، قبل أن أرتّب أغراضي أصلًا.

 

3

أستطيع أن أواجه حتفي، لكنّني لا أستطيع أن أواجه امرأةً تبكي. فتوجّهتُ عفويًا إلى الصّبية الشّقراء، التي كانت تنتحب عند مدخل فندق "تركّفت". جلستُ إليها/ التزمتُ الصّمتَ/ حدّقتُ في السّماء مليحًا، ثمّ رحت أخاطبها. الهاء هنا تعود على السّماء والفتاة كلتيهما، فقد كانت روحُها سماءً أيضًا، ومن تجلّيات ذلك أنّها لم تعتبرني غريبًا، فتتشنّج من وجودي.

 

4

أنا "آن" من النّرويج. متخصّصة في الدّراسات الشرق أوسطية، ولولا أنّي تأخّرت في تمنراست، لكنت ناقشتُ، في أوسلو، مذكرةً عن أولوف بالم رئيس الوزراء السّويدي، الذي اغتيل عام 1986، بسبب مساندته للحقّ الفلسطيني.

ـ هل كان بقاؤكِ في تمنراست من حاجة؟

ـ بل كان بسبب رجل.

 

5

لم يكن من عادتي أن أتمنّى أن أكون واحدًا غيري، وفي تلك تمنّيت لو كنتُ مسعود التارقي بائعَ الفضّة، فتحبّني "آن" النّرويجية، وتؤجّل رحلتها من أجلي، وتقول لي إنّها مستعدّة لأن تمنحني ما أريد، مقابل أن أمنحها قلبي. ما به الفتى مسعود التارقي رفض عرض هذه الملاك؟!

 

6

عرضتُ على "آن" أن ترافقني إلى قلب المدينة، فقالت إنّها ستتفادى إحباطها بالنّوم، على أن نتعشّى معًا في مطعم الفندق.

 

7

لا فرق بين حرارة الجزائر العاصمة وحرارة تمنراست. لكنّ المسافة بين حفاوة تجّارهما، تفوق المسافة بينهما، 1981 كيلومترًا. كنتُ ناويًا أن أشتري خاتم فضّة، فدخلت إلى أكثر المحالّ أناقةً وانسجامًا مع روح المكان والإنسان، ولم أستطع أن أتمالك نفسي، حين قرأت الاسم الذي كان ينقشه صاحب المحلّ على حاملةٍ جلديةٍ للمفاتيح: "آن".

ـ مسعود!!؟

 

8

أنا مسعود من مدينة جانت. ورثت فنّ الفضّة والنقش على الجلد عن أبي، الذي ورثه عن أبيه. دخلت تمنراست لأستقلّ بحانوتي، وأجمع من المال ما يكفيني لأتزوّج فتاتي.

ـ هل جئت على متن الطيّارة؟

ـ نعم.

ـ لو أعطتني "آن" النّرويجية وزن الأرض ذهبًا، على أن أستبدلها بفتاتي ما فعلت.

 

9

لم أكن قادرًا على أن ألتقي "آن"، في مطعم الفندق، بعد الذي سمعته من مسعود. فصعدت إلى غرفتي مباشرةً ولم أغادرها. لكنّني التقيتها بطريقةٍ مختلفة تمامًا. لقد أطلعني مسعود على بعض رسائلها إليه، فانبطحتُ على السّرير أقرأها، ونسيتُ أمر العشاء. كيف تستطيع امرأة أن تحبّ رجلًا بهذا العمق؟

 

10

رتّب لي محي الدّين، بعد يومن، مبيتًا في قمّة الأسكرام، فانطلقت مع الساّئق "صالح". كانت السيّارة رباعيةُ الدّفع تبلع الطريقَ المتوحّشَ مثل ناقةٍ تأكل شوكًا.. لا سرعة ولا ملل. وكنت كلّما لمحت وفدًا من السياح قبلنا أو بعدنا، في وادي أفيلال، كلّما عاد إلي الإحساس بالحياة.

 

11

لماذا كنت أتصوّر الأسكرام منتجعًا فارهًا، بينما هو فضاء يمنحك الفرصة لأن تعيش حياة البرية؟ بضعة أكواخٍ بسيطةٍ تقدّم طعامًا بسيطًا، بساطة كنيسة الأب شارل دوفوكو، هناك في قمّة تحسّ فوقها بأنّك خطيب الشمس.

 

12

جلستُ فوق صخرةٍ رءوم، وأسلمت كلّي للمشهد: ليل مثقوب بنجومٍ فتيّة، فكأنّه غربال بين يدي عجوزٍ قروية/ عواءُ ذئبٍ يشجُّ الأرواحَ/ أيائلُ تتناطحُ في الفاصل بين رأس الجبل وسُرّة السّماء/ طائرُ "مولا مولا" يتنقّل بين الأحجار، مثل ومضة هايكو عطستها لوزة يبانية. وإذا بصرختين، على مقربةٍ منّي، ردّدهما الوجود.

 

13

طرتُ نحو الصّوتين، فإذا هما لآن ومسعود.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جنازة فقيرة لرجل عاش ملكًا

سيرة العاطل