30-ديسمبر-2016

هانية زغوة/ الجزائر

نمتُ وما الله بنائم، فرأيت حلمًا عجبًا عُجابًا لم أدْرِ معه هل أفرح أم أحزن. أصعب المقامات هي تلك التي لا تدري فيها أن تفعل النقيضَ أم نقيضَه، لأن كليهما يملكان دواعي أن تفعله، وهو مقام بات جزائريًا بامتياز. شُفْ مثلًا الانتخابات التشريعية القادمة، هل تفرح بها لأنها قد تشكّل فرصة لتغيير طال انتظاره، علمًا أن التغيير الذي يُنتظر كثيرًا قد يستدعي العنف لحدوثه؟ أم تحزن لأنها مرآة لأمراض السّاسة والشعب معًا، وهي الأمراض التي سمّمت حاضرنا، وستفعل مع مستقبلنا إن لم نتدارك الأمر، وخطورتها لا تكمن في أنها بقيت بلا علاج فقط، بل في أن السّاسة يُرجعون أسبابها إلى الشعب، ولا يحتملون ـ مجرد الاحتمال ـ أنّ لهم فيها يدًا، والشعب يُرجعها للساسة ولا يحتمل أن يقال له: أنت أيضًا أنتجت بعضها. تقصّد أيَّ جزائري، في الجهات الأربع، ووجّه له انتقادًا، فسينكر عليك ذلك، إنه غارق في انتقاد السّلطة، وهي طبعًا تستحق ذلك، لكنه لا يعمل على انتقاد نفسه أو يقبل من ينتقده، وهو يستحق الانتقاد أيضًا.

تكمن خطورة الأمراض التي سمّمت حاضرنا في أن السّاسة يُرجعون أسبابها إلى الشعب

تريدونني أن أعود بكم إلى ما رأيت في المنام؟ لكن لا تنسوا أنه منام وليس واقعًا، ولو أنكم ستجدون فيه كثيرًا من المؤشرات التي تنسيكم كونه منامًا، فتتعاملون معه على أنه واقع. أصعب واقع قد يعيشه شعب أو فرد هو الذي لا يدري فيه هل هو واقع أم منام.

اقرأ/ي أيضًا: كيف قدم الرئيس السيسي درسًا في الدبلوماسية؟

رأيت جدتي مريم بنت بوكبة تستلم شهادة الدكتوراه في العلوم السّياسية من رئيس جامعة الجزائر. ظننت في البداية أنها دكتوراه شرفية فقط، وقد منحت لها لأنها تعاونت مع أحد المخابر العلمية الباحثة في الحكاية الشعبية، وجدتي أحد خزّاناتها، لكنني فوجئت بأنها دكتوراه حقيقية نالتها بعرق الجبين وسهر السنين، لذلك فقد نالت بها درجة الشرف الأولى مع تنويه من اللجنة بأصالة موضوعها، وعمق طرحها، ووضوح نزاهتها، لذلك فإن طبْعَ هذا الإنجاز الأكاديمي الكبير ونشرَهُ ـ حسَبَ اللجنة ـ يُعدّ واجبًا علميًا ووطنيًا على حدٍّ سواء.

تداركت نفسي فأمرتها بتصديق الأمر مؤقتًا على الأقل، والتعاملِ معه على أنه واقع، ففي النهاية ليست جدتي بأتفه من بعض الجامعيين الذي لا يحسنون حتى كتابة تقرير للإدارة، ورحت أصفق بحرارة. في الواقع لقد جئت إلى هنا بدعوة من صديق لأحضر حفل مناقشته للدكتوراه، فإذا بي أجد أن المناقش جدتي وليس صديقي. دعاني رئيس اللجنة لألقي كلمة فأنا نِعْمَ الحفيد المبدع لجدة مبدعة فصعدتُ، هل أتحدث عن نفسي أم عن جدتي؟ بل تحدثْ عن جدتك يا رجل، فهي قد اجتهدت وهذا أوان أن تنحني أمامها وتقول لها إنك فخور بها، مثقف لا يفخر بجده المجتهد ليس مؤهلًا لأن يعرف نفس.

سأنصفك أيتها العجوز الاستثنائية، لكن ما أقول وما أترك؟ الوقت قصير وهو لا يكفي للإلمام بخصالك ومعانيك، يجب ألا أكون استغلاليًا، فأستغلّ احترام المجلس لي وأوغل في احتكار الكلام عنك، فأنت قد قمت بعمل ضخم وهناك أكثر من شخص يريد أن يقول كلمة إعجاب فيك، فكوني حفيدَك لا يعطيني الحق في أن أحتكر الكلام عنك، فماذا سأقول يا جدّتي؟ ثم كم أنت جميلة هذا اليوم، كيف لم أنتبه إلى هذا من قبل؟ ربما شغلني جمال روحك عن جمال مظهرك، وها أنت اليوم تكتسبين جمالًا جديدًا هو جمال المعرفة.

ثمة نواب في البرلمان لا يصلحون حتى لرعي خراف العائلة لكنهم نواب باسم الشعب

اقرأ/ي أيضًا: رأس السنة في غزّة.. ليلةُ السُّخَام

جدتي دكتورة؟ ولكن أين وجه الغرابة في هذا؟ هل عميتَ عن الوزراء الذين لا يستحقون أن يكونوا وزراءَ لكنهم كذلك؟ وعن رؤساء أحزاب لا يصلحون حتى لقيادة أسرهم لكنهم يتحكمون في أحزاب معتمدة، وعن كتاب لا يصلحون حتى لكتابة الأحجبة لكنهم مزروعون في كل المنابر، وعن صحافيين لا يصلحون حتى لأن يكلفوا بنشر أخبار الوفيات في الحومة لكنهم يتصدرون الجرائد والشاشات، وعن نواب في البرلمان لا يصلحون حتى لرعي خراف العائلة لكنهم نواب باسم الشعب بغض النظر عن كونه انتخبهم أم لم ينتخبهم، المهم أنهم نواب على مدار سنوات ولم يحرك هذا الشعب ساكنًا في جعلهم يخرجون من المجلس مثلما دخلوه، وعن أئمة لا يصلحون حتى لأن يصلوا بأنفسهم لكنهم يتحكمون في زمام المساجد والساجدين. لماذا لا تقول إن الرئيس ليس جديرًا بمنصبه؟ أنت خوّاف.. جبان.. تخاف على رزقك والرزق بيد الله، لكن ألا ترى بأن رئيسًا ـ أي رئيس ـ يستطيع أن يحافظ على البلد فلا يسقط رغم كل هذه الخرابات هو جدير بمنصبه؟ ثم أليس جديرًا بالاحترام لأنه منح الفرص للجميع وها أنت أمام دليل صارخ هو أن جدتك تمكنت من افتكاك شهادة الدكتوراه؟

وصلتُ إلى المنصة.. استلمت الميكرو.. كان الصمت مهيمنًا على المدرج الكبير المكتظ بالنخب حتى لو طنّت ذبابة فسُتسْمَعُ.. نخب.. نخب... نخب... نخب صامتة في كل التخصصات، تلعثمتُ فصفقوا لي، نخب تصفق للمتلعثمين، ضحكت استهزاءً بهم فضحكوا، نخب تضحك للمستهزئين بها، لم أجد ما أقول، رئيس اللجنة يستعجلني.. وجدتي تحاصرني بنظراتها.. اكتشفتُ في تلك اللحظة العمقَ الذي يستوطن تلك النظرات.. كان صارخًا جدًّا.. فانطلقتُ أحدثهم عن عمق نظرة جدتي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حلم على مقاس الأسرة

قوس الكمان... يقتلني