29-ديسمبر-2016

(Getty) منحوتة رملية على شاطئ غزة

ذات مساء باردٍ كنت قد اجتمعت وصديقي على طاولة هشة تحت سعف النخيل قبالة شاطئ غزة، واجتر الحديث بعضه، إلى أن وقعنا في المحظور وتحدثنا فيما يسميه العالم الخطة السنوية، ونسميه نحن السُّخَام (أي سواد القدر). إذ قدمت سؤالًا: لماذا تعتبر الخطة السنوية ضربًا من الخيال بالنسبة لنا في غزة؟ فمن النادر أن تستمع إلى شخص يحدثك عن خطته السنوية مع قرب بدء العام الجديد.

في غزة، بلغ عدد الخريجين 150 ألف خريج، أما الكثافة السكانية فوصلت 5,154 فردًا/كم2 

بعد أن ضحك صديقي مطولًا وسحب الدخان تتطاير من فمه، قال متهكمًا: "أترى نشبه العالم في شيء حتى نصنع خطة سنوية كغيرنا من البشر.. قل يا الله يا رجل وكف عن هذا الهراء". لقد تمعنت في قوله مليًا حتى بلغت مفهوم أن الخطة تعني "العبث"، رغم أنها ذات تأصيل شرعي عميق ورد في الحديث النبوي "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا".

اقرأ/ي أيضًا: "منيو" الفيسبوك العراقي

وبينما تعد الخطة والأهداف والطموحات من نافلة القول بالنسبة لغيرنا من الشعوب، التي تمتلك على الأقل أدنى مقومات الحياة كفرصة العمل، المسكن، السفر، غير أن معظمنا لا يملك شيئًا من هذا خصوصًا فئة الشباب، الذين بلغ عدد الخريجين منهم 150 ألف خريج، ناهيك عن الكثافة السكانية التي وصلت 5,154 فردًا /كم2 في القطاع، وفق آخر إحصاءات، فضلًا عن الإغلاق المستمر للمعابر.

وبالتالي، فإننا هنا نتحدث عن مجتمع منسلخ عن الفطرة الإنسانية، بأن الإنسان يملك بصيرة لشق حياته وسط حقل من الصعوبات والعوائق انطلاقًا من ثقته بالله أولًا، ثم بإرادته التي تسلح بها في سبيل تحقيق أهدافه، غير أنه إذا أعطينا أنفسنا المساحة الحقيقية في التفكير العميق في كيفية بناء الخطة لأجل تحقيق الأهداف، تجد أن هناك قنابل من الصعوبات التي قد تنفجر في طريقك، وكأن لعنة القدر قد صبت عليك، فقط لأنك مواطن غزيّ.

وحده الغزيّ، إذا فكر في استكمال مشاريعه التعليمية خارج أسوار هذا القطاع البائس، أول ما يتبادر إلى ذهنه المعبر الذي بالكاد يسعف قوافل المرضى في اجتياز الحدود لتلقي العلاج فكيف بالطلبة؟ وسيخوض معركة مع توفير احتياجات السفر المادية، ناهيك عما سيترتب على انسحابه من الأسرة من عجز في الدخل الذي يعاني ضعفًا من الأصل.

وحده الغزي، قبل أن يخطط لتطوير مسكنه، عليه أن يخوض غمار حرب مع ما يسمى الـ"system" لأجل الحصول على إسمنت، وبالكاد يظفر بالقليل من الكميات التي ترد بموجب النظام المعد إسرائيليًا للتحكم في منظومة إعادة إعمار غزة. وحده الغزي، لا يفكر في قضاء إجازة لأن التفكير بحد ذاته في هذا الموضوع مسببًا للإحباط، على ضوء الحصار الذي يضرب أطنابه على القطاع؛ فلا الجغرافيا تعطيك فرصة للنزهة البرية، ولا الاحتلال يمنحك فرصة ركوب قارب في رحلة صيد بحرية.. نحن باختصار لا نعرف شيئًا عن السياحة.

إذا خطّط الغزي لحفلة عيد ميلاد فعليه مخالفة تاريخ الميلاد انسجامًا مع جدول وصل التيار الكهربائي

وحده الغزي، إذا راودته فكرة شراء مركبة فعليه أن يدقق في نسبة الضريبة الحكومية، وكم الأقساط الشهرية، وقبل هذا كله مدى توفر الوقود، وهل تقبل التشغيل بغاز الطهي بديلًا عن السولار والبنزين الذي قد لا يتوفر من حين لآخر؟ وبالتالي غالبًا ما تفشل الفكرة.

اقرأ/ي أيضًا: قوس الكمان... يقتلني

وحده الغزي، إذا خطّط لإقامة احتفال عيد ميلاد للزوجة أو أحد الأبناء فعليه في أغلب الأوقات مخالفة تاريخ الميلاد انسجامًا مع جدول وصل التيار الكهربائي، وإذا قرر ترتيب جدول للزيارات المنزلية الخاصة بالأقارب والأرحام فعليه مراعاة وصول الكهرباء وإلا سيضطر لصعود السلالم.

رغم هذا كله، لا زلت أحاول أن أقناع نفسي بأننا يجب ألا نبتئس وألا نكف عن الحلم لأن الأحلام هي مصدر الإلهام لمواصلة الحياة، وأن الخطة ليست بالضرورة أن تكون مكتوبة، ولكن على الأقل ألا يغيب عن الأذهان فرصة تقدير المرحلة جيدًا لإجادة صناعة المستقبل، وإلا فستبقى الأيام تأكل أعمارنا دون أن نشعر، وسيتضخم حجم الخيبات على حساب الإنجازات.

ووقتما بادرت بإقناع صديقي بما فكرت به خلال جلستنا التي جاءت على ذكر كل مساوئ البلد عدا الواسطة والفساد والأداء الحكومي، وددت التوطئة لإقناعه بأهمية الأحلام وصولًا للأهداف، فقلت: كيف ستقضي ليلة رأس السنة؟ وبمجرد أن انتهيت حتى انقطع التيار الكهربائي فجأة خروجًا عن توقيت جدول الوصل، فرد صديقي بقول ممزوج بالهزل: تقصد ليلة السخام.. هيا قم لتكمل أحلامك على المخدة. 

اقرأ/ي أيضًا:

الآلهة التي لا تقرأ

لا يولد الناس أحرارًا في الشرق