08-ديسمبر-2016

الحرب في حلب (Getty)

قبل نحو عام تقريبًا، قررتُ السفر في "عيد الأضحى" إلى أحياء حلب الشرقية، لم تكن بعد تعرضت لهذا الحصار القاتل، الذي فرضه النظام وحلفائه عليها، وبدأ يأكل من مساحاتها مستخدمًا كافة أنواع الأسلحة، ولا نريد استعادة أسمائها لأنها كثيرة، وبات يعرفها من أكبر حتى أصغر القوم المنصت لنشرات الأخبار اليومية.

كان الطريق إلى حلب سهلًا، أو نحنُ أردنا ذلك، رغم الحفر المزروعة في عمق الإسفلت، بفعل القصف الجوي الذي يستهدف الريف، والغارات الجوية التي تضرب فجأة. كان نصف القرى التي مررنا بها منازلها مدمرة، وهناك قرى نزح سكانها منها إلى الأراضي الزراعية.

الصور القادمة كل دقيقة من داخل الأحياء الشرقية بحلب، تكشف عورة العجز الدولي لإيقاف المقتلة

إذا صادفت عائلة بسيطة تعيش في المخيمات الحدودية، لا تعنيها الهجرة إلى إحدى الدول الأوروبية، وسألتها عن سبب خروجها من المدينة أو الريف، ستقول لك بصوت عفوي: القصف. وتتناسى جميع المصطلحات الأخرى التي يلحقها المحللون السياسيون، ولا تنسَ أن تضيف لك: لو لم يكن هناك قصف جوي لما خرجنا من منازلنا.. أهلكنا الطيران!

اقرأ/ي أيضًا: في براري الكهولة

منذ يومين نشر "مركز حلب الإعلامي"، مقطعًا مصورًا بتقنية 360 لحي "الشعار"، قبيل سيطرة النظام السوري عليه. بدا الحي كما لو أنه من كوكب مجهول، المحال التجارية مدمرة، السكان هجرت المنازل. التقنية أتاحت للآخر رؤية جزء بسيط من الدمار الذي أفرغ الحي من سكانه. في العام الفائت كان الحي مليئًا بالحياة، والوجوه كانت سعيدة رغم الغارات اليومية التي كانت تضربه، كما أقرانه الأحياء المجاورة.

الصور القادمة كل دقيقة من داخل الأحياء الشرقية، إن كان قبل سقوط معظمها، أو ما تبقى منها، تكشف عورة العجز الدولي لإيقاف المقتلة. صحيح أن التصريحات فاقت حدود الدبلوماسية، وارتفعت حدتها في أروقة مجلس الأمن، لكنها لم تكن منذ اليوم الأول سوى ضجيج أصوات، تشبه معارك مراهقي الأحياء الشعبية التي تنتهي بالتوعّد قتلًا، وفي اليوم التالي يذهب كلٌ إلى عمله، ليعود في المساء مطلقًا تهديدات جديدة، تسلي ساعاتهم القليلة ريثما يأتي الليل، ويخلدون إلى النوم بسعادة المنتصر.

منذ يومين نشر "مركز حلب الإعلامي"، مقطعًا مصورًا بتقنية 360 لحي "الشعار". لقد بدا الحي كما لو أنه من كوكب مجهول

سلسلة الرسوم المتحركة "توم وجيري"، هي أكثر ما يُذكرني بصراعات مجلس الأمن، وتصريحاتهم غير المسؤولة. في إحدى الحلقات يتخلى توم عن جيري، ونشاهد كيف تسير مجريات الحلقة باتجاه محاولة جيري إفشال أي مشروع يريدُ فصلهما عن بعضهما. لأن ذلك يعني أن زمن التسلية انتهى، وسيجلس جيري في جحره يحصي خيبة الوحدة، إذ أن الأثنان يعرفان أن الوئام سيصيبهما بالملل، لذلك يبقى الصراع مشتعلًا فيما بينهم، دون أن يتم التوصل إلى أي نتيجة، في السابق كان جيري يلعب دور الولايات المتحدة، حاليًا انقلب الدور، وأصبحت روسيا تلعبه.

هذا تمامًا ما كان يحصل في مجلس الأمن سابقًا، وما حل في سوريا أثبت ذلك. لا يمكن للولايات المتحدة وروسيا أن يتفقا علنًا، رغم اتفاقهما على كافة الجوانب سرًا، من هنا جاء تشبيههم بـ"توم وجيري". تتدخل روسيا رسميًا في سوريا، ترد عليها الولايات المتحدة بنشر أنظمة صواريخ في دول أوروبا الشرقية، تصعد من وتيرة عملياتها العسكرية شمال سوريا، تبرز أوكرانيا بتهديد جديد، ويستمر الصراع إلى ما لانهاية.

في العودة للحديث عن الصور القادمة من داخل المدينة، فإنها لم تستطع أن تساعد على دخول حتى لو سيارة أجرة تحمل مساعدات "أممية"، وكأن العالم الدولي قطع شرايينه منتحرًا، هذا العجز الإنساني كيف وصل إلى هذا الحد، حتى المدنيين الذي وصلوا إلى مناطق سيطرة النظام، لم يحصلوا على ضمانات "أممية" من عدم اعتقالهم، بعد أن يستلموا وجبتهم الساخنة من أحد "الأكشاك" التي افتتحتها موسكو عند الممرات الإنسانية، وأرهقت مواقعها بأخبارها لتظهر إنسانيتها.

اقرأ/ي أيضًا: مجزرة حلب المستمرة.. إعدام ميداني للأحياء الشرقية

نُشر المئات من الصور خلال الأيام القليلة الماضية، إضافة لعشرات التقارير الإخبارية، لكن لا تزال صورة السيدة التي تمشي بعباءتها وحجابها السوداوان بين أكياس الجثث البرتقالية وظهرها للكاميرا، أكثر صدقًا على تواصيف يصعب علينا جميعًا شرحها.

لا يمكن للولايات المتحدة وروسيا أن يتفقا علنا، رغم اتفاقهما على كافة الجوانب بشأن سوريا سرا، من هنا جاء تشبيههم بـ"توم وجيري"

كل هذا الألم المزروع بين ركام الأحجار، والمتناثر بين الجثث التي قُتِلت بعد أن أنهكها انتظار الخلاص، ومعها صور كثيرة، تبدو كما لو أنها تُسمعكَ معها مظفر النواب يصرخ: "ما هذا الصمتُ العبد الله".

الصور رغم جميع ما تحمل من وجع، فيها حقيقةُ الصمت، وإن كان فيها أحد يصرخ، فإن الصوت يكون مكتومًا. ونحن.. نشاهدها بصمت، تتغير ملامح وجوهنا، نفكر في آلية لامتصاص الألم، نقضم أظافرنا قهرًا، أو كتعبير عن العجز، ونعرف أن خيوط المستقبل يشتد تعقيدها، وتظهر كما لو أنها تعكس المقولة الأشهر التي رددها الجنود الفرنسيون، على ما أذكر، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى: ربحنا المعركة.. وخسرنا النصر.

اقرأ/ي أيضًا:
منسقة العفو الدولية.. كلنا شركاء في مذبحة حلب
حلب.. معركة الأرض المحروقة