07-سبتمبر-2023
gettyimages

تناقش المقابلة أسباب غياب حراك بيئي عربي واسع رغم الضرر من أزمة المناخ (ألترا صوت)

مع صعود التحذيرات بشأن مخاطر الأزمة البيئية التي يعيشها الكوكب، تناسلت بشكل واسع أشكال النضال البيئي، مع النضال السياسي والحقوقي، عبر مختلف دول العالم، وبوتيرة نشاط أعلى في الدول الغربية. هذه الوتيرة التي أصبحت، وفي كثير من الأحيان، تتخذ نزعات نضالية، أقل ما يمكن أن نقول عنها غريبة أو غير معتادة؛ مثل شابة سويدية تقف في وسط اجتماع للأمم المتحدة كي تقرع قادة العالم، أو مظاهرة تقرر إغلاق الطرقات أمام المركبات، وصولًا إلى مجموعة من الشبان الذين يرشقون الأصباغ على الأعمال الفنية المشهورة.

من ناحية أخرى، أصبحت الأحزاب الخضراء الأوروبية، خلال السنوات الأخيرة، تلعب أدوارًا سياسية مهمة في ما يتعلق بضبط التوازنات داخل حلبة التنافس السياسي في بلدانها. حيث أصبحنا نراها، وعلى سبيل المثال، طرفًا في الائتلاف الحاكم بألمانيا، أو جزءًا من أكبر ائتلاف معارض داخل الجمعية الوطنية الفرنسية، ناهيك عن فريقها النيابي المعتبر داخل البرلمان الأوروبي. بينما هذا لا يعكس بأي حال من الأحوال، وعلى حد الملاحظة، قدرتها على تمرير سياسات صديقة للبيئة أو ثني الرأسمالية الصناعية عن استمرارها في تلويث الطبيعة. 

أصبحت الأحزاب الخضراء الأوروبية، خلال السنوات الأخيرة، تلعب أدوارًا سياسية مهمة في ما يتعلق بضبط التوازنات داخل حلبة التنافس السياسي في بلدانها

مقابل كل هذا، تختفي هذه الحركات السياسية (سواء في شكلها النضالي أو المؤسساتي) في عالمنا العربي، بالرغم من كونه البقعة الجغرافية الأكثر تضررًا من تبعات الأزمة البيئية. وهو ما يطرح عدة أسئلة حول هذا الغياب، تنطلق من أسباب تكاثر مثل هذه الحركات في الغرب، وصولًا إلى سؤال إمكانية تجذير الهم البيئي كقضية أساسية داخل الطبقات الشعبية العربية. وهو ما سنعالجه في هذه المقابلة الحصرية على "الترا صوت"، والتي استضفنا فيها الباحث في العلوم السياسية مارك مجدي. 

وتأتي هذه المقابلة ضمن ملف مفتوح بعنوان "الخميس الأخضر"، سنتابع من خلاله التأثيرات الجيوسياسية للأزمات المناخية التي يشهدها العالم.


  • هل يمكن أن نتحدث عن صعود نشاط الحركات البيئية والأحزاب الخضراء في العالم اليوم؟ وكيف يمكن قراءة هذا الصعود في ظل تطور التيارات السياسية الدولية؟ 

بلا شك هناك صعود، لكن هل هو صعود جارف؟ صعود يؤدي إلى تغيير في المعادلات السياسية؟ أظن أن الوقت مبكر لهذا التوصيف، فحتى الآن أحزاب الخضر في أوروبا تخطو خطوات نحو أن يكون لها تمثيل سياسي واضح في البرلمانات الأوروبية، لكن الظاهرة لا تتعدى نطاقها الأوروبي. 

بينما في الشرق الأوسط -على سبيل المثال- لا تزال الأحزاب الخضراء في حالة ضعف، حال وجودها أساسًا. وفي آسيا وشرق آسيا كذلك، النشاط والتواجد ضعيف. أمّا في أمريكا اللاتينية هناك محاولات لحركات بيئية، لكن ليست أحزابًا خضراء تبرز على الساحة السياسية.

وحتى في أوروبا، يمكن أن توجز ثلاث تجارب رئيسية فحسب في دول محددة؛ وهي ألمانيا بالدرجة الأولى، حيث حزب الخضر الألماني شريك في الحكم هناك، إلى جانب الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأحزاب أخرى، ويعتبر الحزب الثاني بعد الاشتراكيين الديمقراطيين. وفي فرنسا، هناك تواجد لحزب الخضر في البرلمان الفرنسي عندما دخل تحالف "الاتحاد الشعبي الإيكولوجي والاجتماعي الجديد" (NUPES)، وهو جزء من هذا التحالف اليساري الذي تقوده حركة "فرنسا الأبية" التي يتزعمها جان لوك ميلونشون. كذلك في هولندا، هناك وجود لحزب أخضر يحاول شق طريقه نحو البرلمان بتمثيل ملحوظ. بالمقابل، هناك أحزاب في دول أخرى؛ إذ تجد أحزابًا للخضر في إسبانيا واليونان، وغيرها. لكن تمثيلها لا يزال حتى اللحظة ضئيلًا ولا يعبر عن حركة سياسية.

بشكل عام، وجود هذه الأحزاب، هو انعكاس طبيعي جدًا لحالة التهديدات البيئية التي يشهدها العالم اليوم، لكن لا تزال أحزاب الخضر في حاجة إلى المزيد، لكي نقول أن هناك صعودًا للأحزاب الخضراء.

getty

  • ذكرتم التجارب البارزة للأحزاب الخضراء في أوروبا، لكن مع ذلك نلاحظ وجود مشاكل كثيرة تحوم حول هذه التجارب؛ في ألمانيا، هناك تهديدات تفكك حكومة شولتز، نظرًا للخلاف بين الخضر والليبراليين. وفي فرنسا، لطالما تم تحميل يانيك جادو مسؤولية فشل اليسار في تحقيق نجاح خلال الرئاسيات الأخيرة وسابقتها. كيف ترى العلاقات السياسية بين اليسار والخضر؟ ومن ناحية أخرى هل تمثل في نظركم النضالات البيئية نفحة حياة في اليسار الأوروبي اليوم؟

أعتقد أن اليسار الأوروبي مأزوم بشكل عام منذ أن دخل الحالة الاحتجاجية، والحالة الاحتجاجية هنا أقصد بها تحوله إلى يسار مابعد حداثي، الذي يمكن أن نقول عليه أنه معادٍ للرأسمالية لكنه لا يطرح بدائل راديكالية في مواجهة الرأسمالية؛ بعض الأطراف فيه تطرح هذه البدائل، كما رأينا في تحالف اليسار الفرنسي كان هناك الحزب الشيوعي وأطروحاته التقليدية التاريخية، لكن الطرح الغالب في ذلك التحالف كان الطرح الليبرالي الصوابي.

من جهة أخرى، في الحقيقة، ليست كل أحزاب الخضر هي أحزاب معادية للرأسمالية، لكنها تبقى قريبة من اليسار. يعني إلى الآن حزب الخضر الألماني هو حزب إصلاحي، يتبنى أجندة ليبرالية في بعض القضايا وأجندة تميل إلى اليسار في قضايا أخرى، لكن لا نستطيع أن نصنفهم كتيار يساري بالمعنى الصريح للكلمة.

وبالتالي، بالنسبة لعموم الأحزاب الخضراء، فبالضرورة حالتهم الناقدة للرأسمالية تأتي انطلاقًا من النقد البيئي للاقتصاد الرأسمالي، وبالتأكيد تقربهم إلى اليسار، لكن لا بنيتهم التنظيمية ولا برامجهم المتأرجحه تجعلهم في علاقة باليسار؛ أحيانًا تقترب وأحيانًا تبتعد.

لكن بأي حال من الأحوال، تساهم أحزاب الخضر في صعود الحركة اليسارية بشكل أو بآخر، لأنه في أي حال من الأحوال لا يمكن أن تكون أحزاب يمينية بالكامل. لأنه مثلًا في قضية المهاجرين آراء الخضر تتباين، ومن المعروف أن هذه القضية يتبنى اليسار فيها جانبًا إيجابيًا ويدعم دخول المهاجرين، في ألمانيا -مثلاً- القضية ليست بهذا الوضوح بالنسبة لحزب الخضر الألماني. 

لكن على أي حال، هذه أزمة عامة لليسار الأوروبي، وإسهام حزب الخضر في الحركة اليسارية الأوروبية ككل لم يتضح بعد، إذ لا تزال تصوراتهم وبرنامجهم عن ما يجب فعله بصدد النظام الرأسمالي غير واضحة؛ يعني في بداية الحركات في الستينات والسبعينات كان تنظيرات الخضر معادية للرأسمالية بشكل صريح. اليوم لم يعد الوضع بهذا الوضوح، إذ نلاحظ أن هناك تصالحًا مع الحالة الرأسمالية بهدف موضعتها بيئيًا، والتسليم بوجودها، مع إجراء بعض التعديلات عليها لتكون صديقة للبيئة. وهذا لا يقرب الأحزاب الخضراء من اليسار بالقدر الكافي، لكنها في الطيف العام للموقف تكون أقرب منه إلى اليمين. وبالتالي، يمكن تصنيفها كحركات يسارية بشكل أو بآخر، بالرغم من أنني لازلت معترضًا على هذا التصنيف، إلى جانب اعتراضات أخرى في ذات الصدد.

getty

  • قبل الانتقال إلى نقطة أخرى، إذا أمكن توضيح أكثر هذه الاعتراضات على أحزاب الخضر في أوروبا؟

كما سبق وأشرت، وبدرجة أولى، الانطلاق فقط من القضية البيئية والنظر إليها باعتبار أنها المشكلة الرئيسية، يضع الأحزاب الخضراء في مأزق عدم طرح البديل للنظام الرأسمالي؛ العنوان الرئيسي لدى كل الأحزاب الخضراء هو محاولة تحجيم نمو الاقتصاد الرأسمالي، مقابل أن التوجهات الراديكالية التاريخية لم تعد قائمة الآن (حسب زعمهم). وبالتالي، تصورنا عن أن الأحزاب الخضراء إذا ما نجحت في الوصول إلى الحكم ستظل متمسكة ببرنامجها، غير صحيح. وخير مثال على ذلك، قائدة حزب الخضر في ألمانيا، حيث تخلت تقريبًا عن 80% مما قالته سابقًا قبل وصولها للحكومة. لكن في النهاية، لا تزال قضية الأحزاب الخضراء مطروحة وتطورها سياسيًا هو سيرورة نحن نشهدها الآن، وسنرى إلى أي مدى ستصل في المستقبل. 

  • ما هي القراءة التي تقدمها لرمزية ودلالة الأشكال النضالية التي يختارها نشطاء البيئة في الدول الأوروبية، كتشويه الأعمال الفنية والمآثر التاريخية؟ 

قبل الخوض في هذه النقطة، ما كنت أود إضافته أيضًا، وهو أمر لفت نظري جدًا، هو أنه بمجرد اندلاع الحرب في أوكرانيا، باعتبار أن حقيبة الخارجية في ألمانيا لحزب الخضر، لم تعترض على تسليح أوكرانيا بل ومضت قدمًا في تسليحهم، وكان الموقف التاريخي لحزب الخضر هو رفض التسليح. أنا صدمت حقيقة من هذا الأمر، وهذا مؤشر ربما يدخل في نطاق أن الخطابات السياسية للخضر غير ممارستهم، عندما يصبحون في مراكز القرار. 

أما بخصوص الأشكال النضالية الجديدة، كتحطيم أو تشويه المعالم التاريخية والأعمال الفنية، هي في نظري، حالة من التطرف الطهراني الذي أصبح يمس الأحزاب الأوروبية، بما فيها بعض الأحزاب اليسارية. ويمكن أن تكون حركة الـ"فيمن" أحد أشكال التعبير عن هذا التطرف من الناحية الثانية. وأعتقد أن هذه الحالة من تجليات سيطرة الطبقات الوسطى على الحركات السياسية؛ فلو كان هناك تمثيل للطبقات العاملة داخل الحركات والأحزاب الخضراء، لربما كانت أقل اهتمامًا بمثل هذه الصراعات الرمزية التي تخاض الآن.

بطبيعة الحال، الطبقة الوسطى في أغلب المجتمعات، حين تتبنى قضية، تدخل في صراعات على جوانبها الرمزية، وتتوغل فيها أكثر من اللازم. والتوغل في الرمزيات يؤدي إلى تطرف له طابع شكلي. وأنا لا أعتقد في أي حال من الأحوال أن هذه الممارسات مفيدة، ولا أنها تؤسس بشكل حقيقي لمشروع يوصل أحزاب الخضراء للسلطة؛ لأنه في النهاية نحن نريد أن نرى هذه الأحزاب تطرح برامجها الواقعية، في برامج إطار الممارسة السياسية اليومية، وفي حكومات تحافظ على البيئة في تفصيلات مناسبة. لكن إذا كنا منغمسين في صراعات أيديولوجية الطابع، والأيديولوجيا هنا بمعناها السلبي الاستلابي. أعتقد أن هذا مؤشر سيء لتطور هذه الحركات، ويمكن هنا أن نفتقد ممارسة الأحزاب الشيوعية التقليدية في أوروبا، لأنها كانت أحزاب واعية جدًا بالممارسة السياسية، ومرتبطة بالصراعات السياسية اليومية أكثر من الدخول في هذه الصراعات الرمزية والمنازعات على التماثيل والصور الأيديولوجية. 

لكن أظن أن حالات التطرف، لن تستمر طويلًا، فهي عادة ما تأخذ وقتها الكافي إلى حد ما تصل به إلى ذروة انتشارها، ثم  تظهر تطرفات جديدة في صور أخرى. فهذه الظواهر، كما أشرنا، مرتبطة بتصورات الطبقات الوسطى والحركات الأيديولوجية التي تنشئها. 

getty

  • هنا أثرت نقطة مهمة بحديثك عن السياق الطبقي الذي تتبلور في داخله هذه النضالات. لطالما جذب انتباهي تناقض عجيب، ورجوًعا إلى خريف 2018، كانت النقطة التي فجرت احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا رفع ضريبة المحروقات، وبرر ماكرون تلك الزيادة وقتها بأنها سياسة لتقليل انبعاث الكربون. وبالتالي، هل هذه السياسات الخضراء في صالح الطبقات الشعبية؟ وهل سنرى تجذيرًا للنضالات البيئية في تلك الطبقات والخروج من هذا التناقض؟

على حد اعتقادي، فحتى الآن التماثل بين مصالح الفئات الشعبية وقضايا النضال البيئي لم يحدث، والتوأمة المطلوبة لم تحدث بعد، خصوصًا في ما يتعلق بالحركات التبشيرية بمشكلة البيئية، والتي لا تزال غائبة عنها الطبقات العاملة. 

كذلك هناك تباعد بين النقابات والاتحادات العمالية وبين أحزاب اليسار في أوروبا عمومًا، وهذا أمر خطير ويشكل أحد مشكلات الحركات اليسارية؛ وبالرغم من دعم ميلانشون وفرنسا الأبية للاحتجاجات الأخيرة  في فرنسا، إلى أن تواجد الأحزاب في هذه الاحتجاجات لم يكن تواجدًا رئيسيًا، ومن يقود الاحتجاجات بدرجة رئيسية هي الاتحادات النقابية. 

وبالتالي، ففي إطار سيادة الحركات الهوياتية، فإن أحزاب الخضر تسقط في فخ الهوياتية، وسقوطها في هذا الفخ يبعدها بطبيعة الحال عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية. وإذا استمرت الحركات البيئية في إطار هذا الفخ، فستكون غير قادرة على اكتساب الغطاء الشعبي المناسب لكي يكون لها مشروع في السلطة. وإذا لم يكن لها مشروع في السلطة، فستصبح حركات مؤقتة وتنشط بشكل مؤقت ثم تعود إلى مقاعد المتفرجين لاحقًا.

getty

  • ننتقل الآن للعالم العربي، وكما سبق وذكرت، نلاحظ شبه غياب للنشاط النضالي البيئي في منطقتنا، ما تعليلكم لهذا الوضع؟ 

حسب ما أعتقده، أن القناعة الرئيسية لدى المعنيين بالبيئة في العالم العربي هي أن التغير المناخي والاحتباس الحراري مشاكل مسؤول عنها الغرب -وهو صحيح في نظري أيضًا؛ فنحن لسنا من أطلق الثورة الصناعية، ولسنا أصحاب 300 عام من الانبعاث الكربوني، وبطبيعة الحال لسنا الطرف الرئيسي في المشكلة. 

بالمقابل، في اعتقادي أن المشكلة في عدم تشكل حركة سياسية خضراء هي جزء من الأزمة العامة للحركات السياسية في العالم العربي، فالحركات السياسية في العالم العربي غالبًا متأخرة بسنين طويلة عن نظيراتها في أوروبا، وتلتقط الأفكار بعد زمن طويل من نشأتها في الحال الأوروبية؛ حتى في حالة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، فبالرغم من وجود حزب اشتراكي في مصر منذ 1920، إلا أنه لم يتحول إلى حزب عمليًا إلا بعد الثورة البلشفية بحوالي 30 عامًا. وهذا زمن طويل جدًا بالنسبة لمصر، التي كان فيها حركات سياسية ليبرالية الطابع قبل هذه الفترة بوقت طويل. 

وبالتالي، فعدم وجود أحزاب خضراء عربية هو جزء من الأزمة العامة لعدم تبلور الحركات السياسية والحركات ذات الطابع السياسي الحداثي في المنطقة. هذا كنقطة الأولى. ولنأخذ العراق (التي تعرف أزمة بيئية حادة) على سبيل المثال، فما نفترض أنه السياق السياسي السائد هناك هو حركات سياسية ذات خلفية قبلية أو عشائرية أو طائفية، فإذا كان فيها مشروع بيئي بهذا التقدم فغالبًا ما سيكون ظاهرة نخبوية جداً. وكنقطة ثانية، اعتبار أننا كدول عالم عربي لسنا المساهمين في قضية البيئة، هو أيضًا عامل مؤثر في عدم تبلور حركات سياسية خضراء. 

مع ذلك، كان لدينا في مصر حزب خضر منذ الثمانينات لكنه ضعيف جدًا، حاليًا هذا الحزب نفسه لو ناقشته في مشكلة البيئية غالبًا سيستغرب؛ هو لا علاقة له بمشاكل البيئية والتغيرات المناخية، وغالباً يطلق على نفسه "الخضر" لأنه ميَّال للبرنامج الزراعي. باعتبارنا قطر من الأقطار المتخلفة سياسيًا، ومتخلفة في مناحي أخرى وليست سياسيًا فقط.

  • هذا بالرغم من أن مصر شهدت تغيرات في البنى التحتية وأنماط الإنتاج، وبالتالي في البنى السياسية، أكثر جذرية من باقي الدول العربية؛ مثلًا إذا نظرنا إلى المغرب نجد أنه لا يزال هناك هجانة في أنماط الإنتاج وهجانة كذلك في الأنماط السياسية، كذلك في العراق ودول الخليج.. هل ظلت مصر متخلفة سياسيًا لهذه الدرجة رغم هذه التحولات عرفتها في تاريخها؟ 

صحيح، أعتقد أن مصر هي الدولة التي فيها تطور رأسمالي أكثر من باقي الأقطار العربية، لكن هذا التطور لم ينجز مهامه حتى الآن، ولا يزال هناك أنماط ثانوية ما قبل رأسمالية موجودة حتى الآن، ولا تزال بنية العائلة والعشيرة حاضرة، باعتبار أن 60% من مصر ريف، حيث لا تزال العلاقات الاجتماعية متأخرة. وبالتالي هناك تطور رأسمالي تاريخي، الذي هو أسبق على البلدان الأخرى في المنطقة العربية، لكن في النهاية نبقى في نفس إطار المرحلة الانتقالية التي طالت من مرحلة ما قبل الرأسمالية  إلى الرأسمالية الناضجة. 

بالتأكيد أنتم على استيعاب لفكرة التطور اللامتكافئ والكولونيالية وإعادة إنتاج التخلف الرأسمالي المعولم. 

وعودة إلى موضوع مناقشتنا حول انعكاس كل هذا الحركات السياسية، بما فيها اليسار العربي ككل، فاليسار العربي للأسف ينقل نقلًا متأخرًا عن الحركات اليسارية في العالم المتقدم، ولا تزال الموجة البيئية لم تصل إلينا بعد. من المتوقع أن تصل، لكن حتى الآن لا يوجد شواهد على ذلك. 

getty

  • مع أننا لسنا من المسؤولين على الانبعاثات، لكننا من المناطق الأكثر تضررًا بالتغيرات المناخية، على شكل موجات جفاف حادة. يضاف إلى ذلك، أن القضايا البيئية تمثل مسألة أمن قومي بالنسبة لمصر في علاقتها بسد النهضة مثلًا، وبنفس الشكل مسؤولية سدود تركيا على نهري دجلة والفرات وعطش العراق. فهل يمكن لهذين الشرطين أن يصعدا من الوعي السياسي الأخضر في المنطقة العربية؟  

من المفترض أن هذه المعطيات التي ذكرت أن تحرك وعيًا بيئيًا في الوطن العربي، وتوجد أسس منطقية كثيرة توصلنا إلى نقطة أنه يجب أن يكون هناك حراك بيئي. لكن الحقيقة مشكلة الحكومات في منطقتنا بشكل عام، وهذا لأسباب ذاتية خاصة بها، أنها تفتقر للحالة التي كانت موجودة في ستينات القرن الماضي وقدرتها على الحشد على أي قضية. وفي مصر هذا جلي جدًا؛ فليس كل ما يقتنع به الرئيس يستطيع الترويج له بالشكل الكافي. وهذا له علاقة بفشل الأنظمة السياسية في بناء المؤسسات الدعائية. 

مارك مجدي: الانطلاق فقط من القضية البيئية والنظر إليها باعتبارها المشكلة الرئيسية، يضع الأحزاب الخضراء في مأزق عدم طرح البديل للنظام الرأسمالي

النقطة الثانية، هي تخلف الحركات السياسية نفسها، وارتباطها بقضايا جزئية وفقدانها للفهم الشمولي للمشكلات؛ لو كان هناك يسار راديكالي -وهناك يسار راديكالي بالتأكيد لكن صوته لا يسمع بالقدر الكافي- لكان سيربط ربطًا رائعًا بين مشكلات الرأسمالية والمشكلات البيئية، وكان سيربط ربطًا جيدًا بين الرأسمالية المعولمة والتخلف الاقتصادي والاجتماعي في العالم الثالث، وبالتالي تضرر هذا العالم الثالث من المشكلات البيئية.

  • كسؤال أخير نلخص فيه حديثنا،كيف يمكن لقضايا البيئة في العالم العربي أن تنتقل من شكلها النخبوي لتصبح قضية للقواعد الشعبية؟ 

أعتقد أن قضايا البيئة ستتمكن من الانتقال من الحالة النخبوية إلى حالة شعبية عامة، وذلك من خلال رافدين: أولًا على الحكومة أن تبدأ في إدراك المشكلة البيئية بحق، لأنه حتى الآن المشكلة البيئية مطروحة، لكن ليست على جدول أعمال الحكومات العربية بالكامل. بالرغم من أن هناك محاولات لتحسين الوضع، فمثلًا عندنا في مصر أصبحت المنشآت الصناعية تبنى بمواصفات تحترم البيئة، لكن هذا غير كاف مادام عندنا وعي بيئي متضائل، وهذا ينطبق على الشرق الأوسط ككل، فالسلوكيات اليومية للمواطنين غير محافظة على البيئة وغير مكترثة بمشاكل البيئة، لأنها لم تطرح عليهم بأي حال من الأحوال. وبالتالي، أعتقد أنه يمكن لتبني الحكومات أن يكون سبب رئيسي في انتشار هذا الوعي. 

والرافد الثاني هو تبني الطبقة العاملة لقضايا البيئة. فوعي الطبقة العاملة العربية بهذه المشكلة لم يتبلور بالقدر الكافي، كما هو الحال أيضًا في أوروبا حيث لم تدخل الطبق العاملة في سياق هذا النضال البيئي. لكن، أعتقد أن الحالة العملية التي يمكن أن تنقل الاهتمام بالبيئة من النخبة إلى الجمهور، هو أن يكون لدينا نشطاء بيئة واقعيين أكثر من المجودين حاليًا؛ وحاليًا أغلبهم مجرد متلقين تمويلات أكثر مما هم معنيين بالبيئة، لكن لا تزال القضية البيئية في شكلها العقائدي لم تترسخ لدى هذه النخب. بالتالي، نحن ليس لدينا في غالبية الأحيان نشطاء حقيقيين في قضايا البيئة، ولا حتى لدينا تنظير لتأسيس أحزاب سياسية على أساس بيئي.