22-أغسطس-2022
Lex Takkenberg

ليكس تاكنبورغ، الكاتب والباحث في الشأن الفلسطيني (تويتر)

منذ انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، في الـ 27 شباط/ فبراير الماضي، لاحظنا تقلب تل أبيب في إبداء موقف موحد ومنسجم إزاء ما يقع؛ حيث رفضت في الأول الاصطفاف مع الغرب في إدانة روسيا داخل مجلس الأمن، كما أحجمت عن الانخراط في حملة العقوبات التي أعلنت ضدها. وفي وقت لاحق، سَعت لتلعب دور الوسيط بين بوتين وزلينسكي، غير أن كل هذه المساعي باءت بالفشل. وانتهى هذا كله مع تصريحات لافروف حول  "يهودية هتلر"، وبعده حظر نشاط الوكالة اليهودية في روسيا، ما أدخل العلاقات الإسرائيلية الروسية إلى منزقل تدهور غير مسبوق.

يحضر معنا في مقابلة حصرية لـ"ألترا صوت"، الدكتور ليكس تاكنبورغ، الكاتب والباحث في الشأن الفلسطيني الذي سبق له شغل مناصب عدة داخل الأمم المتحدة ووكالة الأونروا

فيما ومن خلال كل هذه التطوارات، ورغم البعد عنه جغرافيًا، يرخي الصراع الدائر شرق أوروبا بظلاله على منطقتنا العربية، وعلى القضية الفلسطينية على وجه التحديد، ارتباطًا بكون مفاهيم كـ "الاحتلال" و"المقاومة" و"المقاطعة" أصبحت تحتل مكانًا دائمًا في الخطاب العام الغربي.

للتطرق إلى هذه المحاور وأكثر، يحضر معنا في مقابلة حصرية لـ"ألترا صوت"، الدكتور ليكس تاكنبورغ، الكاتب والباحث في الشأن الفلسطيني وكبير مستشاري مؤسسة "النهضة العربية للديمقراطية والتنمية"، الذي سبق له شغل مناصب عدة داخل الأمم المتحدة وداخل "الوكالة الأممية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- أونوروا". 


  • من وجهة نظرك دكتور ليكس تاكنبورغ، كيف نفهم تقلب الموقف الإسرائيلي إزاء الحرب في أوكرانيا؟ وكيف أثَّرت هذه الحرب على علاقة تل أبيب بموسكو؟

بالنسبة لإسرائيل، من أهم مفاتيح فهم علاقتها بروسيا هو حرية التدخل العسكري في سوريا، من أجل ضرب المواقع العسكرية الإيرانية أو تلك التابعة لميليشيات مدعومة من إيران داخل الأراضي السورية، وهذا لا يمكن له أن يتم -كما نعلم- إلا بموافقة روسيا التي توفر الحماية للنظام السوري. لذا فمن المهم بالنسبة لإسرائيل أن تحافظ على علاقات جيدة، أو على الأقل عقلانية، مع روسيا.

وأعتقد أنه لهذه الأسباب، أكثر من غيرها، اتخذت تل أبيب نهج الحذر في إبداء موقفها، عندما انطلق الغزو الروسي لأوكرانيا. فلاحظنا أن كلام لبيد (وزير الخارجية الإسرائيلي وقتها) كان أكثر حدة في انتقاده لروسيا. رئيس الوزراء بينيت وقتها على الجهة الأخرى كان أكثر حذرًا. هذا ما يمنح الانطباع بأن إسرائيل تسير على خيط ضيق، فمن ناحية قد عبَّر الأمريكيون عن امتعاضهم عندما رفضت دعم قرار إدانة بوتين في مجلس الأمن، ولم يتم التصويت عليه وقتها بسبب الفيتو الروسي، لكنها عادت لتصوت لصالحه بعد أن نقل للجمعية العامة، حيث تمت المصادقة عليه.

إذًا، كما قلت، إسرائيل تسير على خيط دقيق، بين ألَّا تزعج الروس أكثر من اللازم  وألَّا تغضب الأمريكيين كذلك. واستمر هذا الوضع إلى حدود الأسابيع الأخيرة، حينما وجهت روسيا انتقاداتها الحادة لنشاط الوكالة اليهودية في البلاد، والتي تلعب لعقود دور تسهيل هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل. ولسنوات أثارت روسيا مشاكل بشأن هذه الوكالة، وصولًا إلى الشهرين الماضيين حين أعلنت بشكل مفاجئ بأنها ستحظر نشاطها في روسيا، ما خلق الامتعاض دخل إسرائيل. وبالتالي الأمور تتأرجح بين البلدين، صعودًا ونزولًا، خصوصًا بعد العملية العسكرية في غزة والتعليق الروسي عليها.

  • قبل الوصول إلى العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة ورد الفعل الروسي بشأنه، دعنا نطرح هذا السؤال: لاحظنا مؤخرًا تصدر مصطلحات كـ "الغزو" و"المقاومة" تقارير وسائل الإعلام الغربية في وصف ما يقع في أوكرنيا. لماذا لا يستخدمون نفس المصطلحات لوصف ما يقع في فلسطين؟

سلط الغزو الروسي لأوكرانيا -مرة أخرى- الضوء على ازدواجية المعايير التي يقارب بها الغرب القضية الفلسطينية في علاقتها بانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان. ففي حالة أوكرانيا، أدان الغرب بقوة الغزو ودعمهم بالسلاح، وفرضت عقوبات ووجهت نداءات للمقاطعة الثقافية والرياضية والأكاديمية للروس. كذلك عدد من الشركات الغربية، كماكدونالدز وستاربكس وغيرهما، أعلنت خروجها من روسيا. وبالتالي، لم يأخذ الأمر سوى أسابيع حتي يطبق الغرب قائمة متنوعة من المقاطعات والعقوبات ووقف الاستثمارات مع الروس، هذا بينما تحارب إسرائيل وحلفائها الغربيون بشراسة أي تحرك تقوم به "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات - BDS" ضد الدولة العبرية.

فهذه الحرب، في نظري، فضحت ازدواجية معايير الغرب، لكن من ناحية أخرى مثلت فرصة سانحة لتطبيق منظومة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). وأظن أن التطبيع الواسع الذي يحصل مع مفهوم هذه المقاطعة والعقوبات، وإن كانت في هذه الحالة موجهة ضد روسيا، لن يأخذ وقتًا طويلًا ليتحول بقوة ضد إسرائيل. لأن المجتعمات الغربية بدأت ترى وتلاحظ، عكس ما يريده لها السياسيون، وجود تشابه بين القضيتين وسرعان ما ستسعى للقيام بنفس الشيء بخصوص ما يقع في فلسطين. لا أقول هنا أن السياسيين سيكونون جزءًا من هذا التحرك، فمن الصعب حدوث ذلك، لخوفهم من أن تتم مهاجمتهم من قبل اللوبي الداعم لإسرائيل. وبدأنا نرى بأن حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني هي الآن أقوى من أي وقت مضى، وتلعب دورًا كبيرًا في انتقاد ما تقوم به إسرائيل، وقد يشمل ذلك أيضًا مجتمعات المال والأعمال.

 وبخصوص المسألة الفلسطينية، فمن أهم مراحل التحول التي تعرفها هو ما شهدناه في السنتين الأخيرتين، وبعد سنوات وسنوات من النضال الحقوقي الفلسطيني،  نجد منظمتين إسرائيليتين رائدتين في مجال حقوق الإنسان -"ياشدين" و"بيتسليم"، إضافة إلى اثنتين من أهم المنظمات الحقوقية الغربية -"هيومن راتس ووتش" و"أمنستي إنترناشونال"- ومتبوعين بالمبعوث الأممي السابق للأراضي المحتلة، قادوا جميعًا أبحاثًا ودراسات في غاية الدقة والتفصيل تؤكد بما لا لبس فيه، لا فقط في غزة والضفة بل في كل أراضي فلسطين التاريخية، ارتكاب إسرائيل جرم الفصل العنصري الذي يعاقب عليه القانون الدولي. 

هذا في نظري تحول مهم للوضع، وأنا من جيل كبر مع الأبرتهايد في جنوب إفريقيا، وخلال مراهقتي والعشرنيات من عمري كنا نشهد الفظاعات التي يرتكبا ذلك النظام، وكانت الحركة المناهضة للأبرتهايد قوية حول العالم، لدرجة أن والدي لم يكونا ذوي توجه يساري لكنهم كانوا يقاطعون شراء الوقود من شركة "شال" لأنها كانت تقيم علاقات اقتصادية مع نظام جنوب إفريقيا.

وبالتالي فإن وصم "الأبرتهايد" أصبح لطخة وسخة على سمعة إسرائيل، والسياسيون خائفون من هذا. فبالنسبة لحركات التضامن الأمر واضح ولهذا "BDS" تكتسب القوة يومًا بعد يوم، بالرغم من كل الانتقادات والهجمات التي يقودها ضدها اللوبي الإسرائيلي والداعم لإسرائيل. لكن أرى أن ما ينقص الآن هو انتقال هذا النشاط لعالم المال والأعمال، حيث لا زال فاعلوه يركضون وراء الربح، وقد بدؤوا مؤخرًا يهتمون أكثر بوسائل اكتسابه، ويهتمون بمشاكل البيئة وكذلك حقوق الإنسان، والأبرتهايد الذي تقوم به إسرائيل هو أحد الانتهاكات الحقوقية الأكثر بشاعة في وقتنا الحالي.  وفي هذا السياق أظن أن الحرب في أوكرانيا تؤثر، أي بنشر التوعية حول ماهية المقاطعة أو العقوبات أو سحب الاستثمارات،  ونظرًا للتقاطع الكبير بين النضالات والقضايا في وقتنا الحالي، أعتقد أن هذه المقاطعة سرعان ما ستتحول نحو إسرائيل.

  • من ناحية أخرى، رأينا عددًا من المسؤولين الروس يبررون الغزو بالقول: إننا فقط نقلد ما قامت به الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وما تقوم به إسرائيل في فلسطين. فهل يمكننا الحديث أن بوتين استلهم، بشكل أو بآخر، غزوه من العدوان الإسرائيلي على فلسطين؟ وهل شجعه الصمت الدولي بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية ليقوم بذلك؟ 

بدرجة أو بأخرى، أقول نعم، وجود بوتين في الساحة السياسية الدولية يمتد لعقود، إذًا فهو يعرف ما سمحت به الولايات المتحدة لنفسها أن تقوم به في العراق وأفغانستان، وما تقوم به إسرائيل الآن في فلسطين. ولست خبيرًا في الشأن الروسي أو في النزاع الروسي الأوكراني، لكن كملاحظ أعتقد بأن بوتين قال بأن الغرب يحتاج مواردي الطاقية، ومن جهة أخرى فالأمريكيين قاموا بنفس الشيء عندما غزوا العراق، وربما أخطأ حسابه في هذا. بوتين أراد حربًا خاطفة وانتصارًا سريعًا كي يجر أوكرانيا إلى نفس تبعية بلاروسيا له، لكنه أخطأ بشكل دراماتيكي في حساب ذلك. 

أعتقد أيضا بأن الغرب قاد نوعًا من التوسع الأرعن على حساب دول الاتحاد السوفياتي عقب انهياره، وعلى غرار تفكك الحلف الروسي (حلف وارسو) كان على حلف الناتو -الذي قام أساسًا لمواجهة روسيا- أن يتم تفكيكه، لكن ما حصل هو تصعيد الناتو نشاطه وتوسيع قائمة أعضائه لتشمل عددًا من الدول السوفياتية سابقًا، بل وأعلن عن استعداده لقبول انضمام أوكرانيا وجورجيا. هنا أظن أن الناتو يتحمل كذلك المسؤولية في ما يقع في أوكرانيا.

وفي نظري أنه بعد الاعتقاد الذي ساد عقب الحرب العالمية الثانية، بأن المنتظم الدولي "لن يسمح بارتكاب جرائم حرب مجددًا بعد الذي حصل خلال الحرب"، رأينا كيف ضربت أمريكا كل ذلك عرض الحائط، كما لا تبدو إسرائيل مهتمة من جهتها، وبطبيعة الحال فقد شجَّع هذا الوضع روسيا وقد يشجع الصين على التعامل برعونة أكبر مع مشكلة تايوان.   

  • خلال العدوان الإسرائيلي على غزَّة، حمَّلت الخارجية الروسية المسؤولية كاملة لإسرائيل في ما تدهور إليه الوضع، والذي يعد سابقة في الخطاب الديبلوماسي الروسي إزاء إسرائيل. كيف يمكننا قراءة رد الفعل الروسي الأخير؟ وهل هذه التطورات الأخيرة في غزة تضع الغرب في موقف حرج ارتباطًا بدعمه المتواصل لأوكرانيا؟

أولًا، هذه هي الحرب الخامسة على غزة منذ  2008 بالرغم من أنها لم تدم سوى ثلاثة أيام، لكنها تتميز بأنها لم تكن مسبوقة بضربات الفصائل الفلسطينية، حيث إنه عقب اعتقال إسرائيل قيادي الجهاد الإسلامي في الضفة، وخوفًا من التصعيد، اختلقت إسرائيل أسبابًا لهجوم استباقي على غزة. فما وقع كان مختلفًا، بينما بقيت حماس حذرة خارج الحرب، وبالتالي فهو عدوان صارخ وانتهاك لبنود معاهدة الأمم المتحدة في حق فلسطينيي غزة.

الآن، ومع أن الأمر كان عدوانًا صارخًا، واصل الغرب - والولايات المتحدة على وجه أخص- دعمه لإسرائيل دون قيد أو شرط؛ حيث صرَّح بايدن بأنه يقف مع إسرائيل في حقها بالدفاع عن نفسها، وتوقف موقف الاتحاد الأوروبي عند إبداء انشغاله بتطور الأحداث والدعوة لضبط النفس واتباع النهج السياسي لحل المشاكل. دون أدنى انتقاد لإسرائيل بأن هذه الحرب كانت عدوانًا واضحًا.

وصم "الأبرتهايد" أصبح لطخة وسخة على سمعة إسرائيل، وبالنسبة لحركات التضامن الأمر واضح ولهذا "BDS" تكتسب القوة يومًا بعد يوم، بالرغم من كل الانتقادات والهجمات

وبالتالي، فإن كلام بوتين لأول مرة كان صحيحًا بخصوص ما حدث في غزة، وكان من بين القليلين اللذين انتقدوا إسرائيل، وبشكل يحرج الأمريكيين والغرب ويسلَّط الضوء على ازدواجية المعايير الغربية. من ناحية أخرى، هو إشارة إلى استمرار انحدار العلاقات الروسية الإسرائيلية، وهذا ليس بالخبر السار في تل أبيب، ليس فقط بشأن سوريا، بل بشأن التقارب الكبير الآن بين الروس والإيرانيين والأتراك الذين يتحولون إلى قوى كبرى بشكل متسارع في منطقة واسعة من الشرق الأوسط، ربما أكبر من مصر والسعودية، وهذا بطبيعة الحال مصدر قلق لإسرائيل.