21-أبريل-2022
عباس بيضون

الشاعر والروائي عباس بيضون

ليس غريبًا عدّ عباس بيضون رائدًا للحداثة الثّانية. فالحديث عن تجربته أشبه بالدّخول إلى حقل ألغام. دخولٌ مصحوبٌ بضرورة المعرفة المسبقة والمجازفة الحقيقيّة. استطاع بيضون على مدى نصف قرن نقل عوالمه الخاصّة إلى قصيدة النثر، متّجهًا بها نحو مسارات مختلفة. التجربة الاستثنائية الّتي قدّمها في أعماله رسّخت ما يصحُّ تسميته كتابة جديدة ومفصليّة في مسيرة قصيدة النثر العربيّة.

يأتي هذا الحديث مع صاحب "أشقاء ندمنا" و"حجرات" و"الموت يأخذ مقاساتنا" بمناسبة صدور الطّبعة الثانيّة لقصيدته الشّهيرة "صُوْر"، الّتي صدرت أول مرة عام 1985. اليوم تعاودُ دار النهضة العربيّة في بيروت إصدارها في إطلاقة ثانية.

حول "صور" والشّعر وأحوال الكتابة والتّجارب الشّابة النضرة وهموم أخرى، كان لألترا صوت هذا الحوار.


  • بعد مسيرة طويلة أكثر من نصف قرن، نجدك تعود إلى "صُور" تلك التي وصفتها سابقًا بالأم. ما سرّ هذه العودة؟ ولم الآن بعد السادسة والسبعين؟

ليست عودة إلى صور. إنها طبعة ثانية للقصيدة. أظنُّ أنّ دار النّهضة وربّما أنت أيضًا فكّرتُما بإعادة النّشر هذه، ووجدتُ الفكرة جميلة ووافقت. ليست إعادة النّشر هذه حنينًا مهجريًّا للمدينة فأنا لم أغادرها، على الأقلّ لم أغادر لبنان. ثم إنّها ليست وطنيّة مداهمة. القصيدة بحدّ ذاتها هي سيرة أو ما قبل السّيرة، والمدينة ليست فقط مسرحًا لها بقدر ما هي مادّتها ولحمُها وعصبُها.

عباس بيضون: قصيدة صور هي ذلك الالتباس في علاقة الشّخص بنفسه. إنّها حيثُ يحملُ الشّعر دفّتي ذلك الازدواج، حيثُ يتكلّمُ بلهجتين

 

القصيدةُ هي هذا المزجُ بين الاثنتين. إنّ دعوة صور أمًّا في حديث ما، ليس هذا أفضل ما يُقال. ثمّ إنّ ما بين الأمّ والابن أكثر العلاقات التباسًا وازدواجًا.

قصيدة صور هي أيضًا ذلك الالتباس في علاقة الشّخص بنفسه. إنّها حيثُ يحملُ الشّعر دفّتي ذلك الازدواج، حيثُ يتكلّمُ بلهجتين، وربّما أكثر، في الآن نفسه ويكونُ عندئذ في لبّ الكلام وفي أناه.

  • تقول دائمًا إن الشّعر كائن سلبي. قائم على السّلب ولو كان إيجابًا لما وُجد، أو بتعبير آخر لما كان ذا قيمة. ماذا تقصدُ بذلك؟  

ليس الشّعرُ وحده سلبيًّا. فقد يكونُ الشّعر بما هو غناء، مديحًا أو تغنّيًا. وفي ذلك ما يمتُّ إلى المديح. الرّواية أكثر نزوعًا إلى السّلب، بل هي تبعًا لكثيرين سردُ التّهافت والانحدار. يمكنُ لذلك أن نقول إنّ الفنّ سلبيّ كلّه.

إنّه بما هو توغُّل وذهاب إلى الأبعد يقعُ على ما هو نفيٌ وسلب. لا نعرفُ فنًّا مُتفائلًا، لا يكونُ مجرّد درسٍ سطحيّ. مجرّدُ عظة لا طائل تحتها.

  • ذلك الخوف والتردّد الدائم في طرح نفسك شاعرًا، بل لو قلنا هذا الالتباس في الهوية كشاعر ما هو مصدره؟

لا أعرف من أين هذا السّؤال. لستُ مُتبجّحًا لكنّني لا أجد سببًا للخوف أو التردّد "الدّائم" على حدّ سؤالك. يكفي أن أنشر هذا الشّعر، مجموعة بعد مجموعة، لأكون قد قدّمتُ نفسي كشاعرٍ بدون تردد ولا خوف. لا أعرف من أين وردك هذا الانطباع. أذكر أنّني عنونتُ حديثًا لي بـ"الشعر لم يبدأ بعد"، وكنتُ هكذا حينها أنسجُ على هايدغر "الفلسفة لم تبدأ بعد"، أي أننا لا نعرفُ ما هو الشّعر، وإن كنّا لا نفعلُ سوى استدعائه. كلامٌ كهذا لا يتنصّل من الشّعر لكن يتركُهُ مفتوحًا وفوق النّمذجة أو التّعريف. إنّه أيضًا همٌّ بالشّعر وليس خوفًا منه.

  • البدايات: أكانت في صور أم في بيروت؟ في باريس؟ أو بين أوراق مجلّة شعر؟  

بداياتي في الشّعر من بداياتي في الحياة. كتبتُ للصّدفة قصائد في صور وبيروت وباريس. لكنّني كتبت أيضًا أشعارًا في برلين وليماسول. بل كتبتُ مقطعًا في أصيلة المغربيّة. هذه جميعًا، وبمعنى ما، بدايات.

  • كيف تعرّف العلاقة مع أقرانك الشعراء هل يتسع عالمك لشعراء متعددين؟ لا نتحدث هنا عن شعراء غادرونا، نتحدث عن معاصرين وأقران. وإذا كان متسعًا، ما الذي تكرهه في شعرك وما الذي تبقى على حبك له؟  

علاقاتي بشعراء معاصرين وأقران. هل تقصدُ علاقات شخصيّة؟ هل تقصد علاقاتي بزملاء؟ إنّها علاقاتي بالجميع ولكلٍّ منها نمطُه الّذي لا يصدر بالضّرورة عن قراءتي لصاحبه، ولا يلحق برأيي بشعره أو بتفاعلي مع هذا الشّعر. إذا كنت تقصد علاقتي بنتاجات معاصريّ وقصائدهم فلن يكون هناك محلٌّ للشّخصيّ.

كثيرٌ من هؤلاء لا أعرفه ولم ألتق به. كان لي حظّ اللّقاء بترانسترومر الّذي سبقت لي قراءته، وهو من شعرائي المفضّلين.

أما العرب فأنا بالطّبع أعرف كثيرين منهم لكنّ الصّلة الشّخصية ليست حكمًا أدبيًّا. إننا نبنيها بالطّبع على أمور كثيرة، قد لا يكونُ النّتاج الشعريّ سوى واحد منها. وقد لا يكونُ بالضّرورة عصبها ومحورها.

  • ما الذي تتوخاه من قارئك: التضامن، الإعجاب، أن يحبك أن يحب نفسه من خلالك؟ كل هذه الاحتمالات لو كانت واردة ماذا تقول لك كقارئ؟ ومتى تشعر أنك أضأل من أقرانك؟

يعنيني القارئ لكنّني لا أجدُ نظريّة لعلاقتي به. أريده بالطّبع وأكتبُ له لكنّني لا أجدُ لهُ نموذجًا ولا نمطًا ولا أعتبرهُ واحدًا. أظنُّ أنّ هناك قرّاء متباينين متفاوتين. بالتأكيد قد يكونُ القارئ أو القرّاء، في الأرجح، جزءًا من سوسيولوجيا لا نصل إلى تمييزها أو استبصارها. مع ذلك نكتبُ ونهبُ ما نكتبه لقارئ تبقى صلتُنا به غامضة بل وخفيّة. نكتبُ لقارئ لأنّ هذه هي اللّعبة الّتي تدورُ في الغالب خفيةً عنّا، ولأنّنا نتفاجأ بها على الدّوام.

عباس بيضون: إذا شئنا تعريفًا للشّعر، فهو محاولة الشّعر، هو الهمُّ المُستمرُّ به، هو البحثُ المتجدّد عنه. هذا لا يمنعُ من أن نستعيد أيضًا هايدغر في قوله أنّ اللّغة تتكلّم في الشّاعر

أمّا متى أشعرُ بأنّي أضألُ منْ أقراني فهذا سؤالٌ حين يلي ما الذي تكرهُهُ في شعرك، يردُّ المسألة كلّها إلى نوعٍ من السّباق الشّخصيّ، الّذي لا أنكره، فهو غيرُ مستبعد. لكني لا أقيمُ مع ذلك منهُ مقياسًا ولا أعتبره، ولو نفر وبرز، أساس المسألة.

  • لو أمكننا في هذه العجالة العودة إلى "حجرات"، لوجدنا ذلك النفس السردي، وذلك البوح الشّعري. هل في "حجرات" شيء من السّيرة الذاتية؟

 أجاريك في قراءتك لحجرات ففيها كما وجدت "شيء من السّيرة"، بل فيها، كما حاولتُ، أشخاصٌ وأحوالٌ في حياتي. لكنّني أظنُّ أنّ في كلّ مؤلّف شيءٌ من السّيرة، بل من محاولة السّيرة. أظنُّ أنّ في ذلك، من بعيدٍ أو قريب، استدعاءً وتمثّلًا لأجزاء من سيرة. الشّاعر أو الكاتب هو، باستمرار، أمام نفسه الماثلة له على الدّوام. "حُجُرات" قد تكون مثل "صور" ما قبل السّيرة، لكن مثلًا "مدافن زجاجيّة" و"فصل في برلين" و"كفار باريس" و"بطاقة لشخصين" هي من السّيرة نفسها، بل هي أحيانًا من يومياتها. هذه السيرة الّتي قد تكونُ مفتاحًا لقراءة شعري.

  • هل يمكنك الآن أن تقف على تعريف للشّعر؟ بمعنى آخر ما الّذي منحتك إيّاه التجربة من مفاهيم أو رؤى شعرية خاصة؟

لعلّك فهمت من حديثي "الشّعر لم يبدأ بعد" أنّنا لا نستطيعُ أن نردّ الشّعر إلى نموذج أو مثال. القصائد نفسها ليست سابقة ولا يُمكن البناءُ عليها. الشعر لذلك لا ينتهي في مؤلف أيًّا كان.

وإذا شئنا تعريفًا للشّعر، فهو محاولة الشّعر، هو الهمُّ المُستمرُّ به، هو البحثُ المتجدّد عنه. هذا لا يمنعُ من أن نستعيد أيضًا هايدغر في قوله أنّ اللّغة تتكلّم في الشّاعر. أن نستعيد أيضًا منه مصطلح "الإصغاء" وذلك التّعبير البديع: "الإصاخة إلى الآلهة المهاجرة".

  • باطّلاعك وتواصلك مع التجارب الشعرية الحديثة هل أنت متفائل أو محبط؟

لا أضعُ نفسي في أيٍّ من الموقعين. فلستُ ممّن يسمحُ لنفسه بأن يُحاكم المستقبل. إنّني أقرأ الجيل الجديد بوصفه الدّفقة الجديدة، بوصفه ضربًا آخر عن الشّعر ومحاولةً ثانية له.

هكذا أبحثُ أيضًا عن الشّعر وأجدُ تجلّيًا آخر لهُ. أعرف أنّ ثمّة هنا واقعٌ ثانٍ ومقوّمات تالية. والأهمُّ من ذلك ثمّة فكرٌ ثانٍ وأسئلةٌ ورؤى جديدة. الشّعر هكذا يتّخذُ مظهرًا أو مظاهر خاصّة أيضًا، وعلينا أن نستشفّها لا أن نمتحنها أو نُحاكمها.

  • أخيرًا، ما الّذي يهبُك إيّاه الشّعر الآن؟ ما مدى خصوصيّته دون الفنون الأخرى بالنسبة لك؟

يُمكنني أن أمتدح الشّعر. لقد جعل الحياة مُمكنةً لي. أمتدحُ الكتابة بالإطلاق، بل أمتدحُ القراءة أيضًا. ذلك ساعدني على تحمُّل ذلك العبث، وأن أنظر، ربّما بدون يقين، إلى الأمام.