21-يناير-2022

الشاعرة أسماء عزايزة

في حوار غمره اللطف – وإن جرى عن بعد – التقيتُ أسماء عزايزة لتأخذني في رحلة متخيلة داخل بيتها، ومساحتها الكتابية، تحدثنا عن خلق الكلمات والشعر، عن تلك الأيام العاديّة التي نجتازها بقصيدة أو نمضي يومنا على الرّيق دون كتابة. تشاركنا أسماء تبدّلاتها التي نسجت ثوبها ظروفها الحياتية، وتجربة خلق كل مجموعةٍ شعريّةٍ نشرتها. من قرية دبّوريّة حيث تمتد جذور عائلتها المفتونة بالكتب والقراءة، إلى الحي الألمانيّ في حيفا، حيث تختلي بغرفتها الكتابية الصغيرة التي تحب، وليس انتهاءً بطاولتها الخشبية التي أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من غرفة طفلها حديث الولادة سينا.

تنشر أسماء جناحيها، منشئةً لنفسها مساحات كتابية مفتوحة في مكتباتٍ عائليّةٍ قديمة، ومقاهٍ لا يرتادها الأصدقاء، فنراها تعثر على قصيدتها في مساحات جغرافية تألفها، أو تعيد خلقها في مدينةٍ ما يسكنها غرباء لا تبحلق عيونهم الفضولية المتلصصة في يدها، ولا تختبئ تحت جلد مخيلتها.

لطالما أسرتني شخصية أسماء وحضورها على منصات التواصل الاجتماعي، متابعةً يومياتها الشعرية، وجولاتها الأدبية، ومقالاتها وحواراتها، حريصةً على قراءتها والتعلم منها. لها في كلّ صورةٍ حكايةٌ تسحل من رأسي وذاكرتي، دافعةً إياي للخروج من عتبة أفكاري المغبرة للمشي حرّةً في دروب الكون الواسعة، فتبادلني الحديث شجرةٌ، وتناديني رياحٌ، وترافق خطواتي ظلال شمسٍ في حقول قمحٍ وزيتونٍ، وكروم عنب وبيارات برتقال. وعندما لا أتمكن من تصفّح كتابٍ لانشغالِ يدي بقيادة سيارتي صباحا، أو إنجازٍ عملٍ منزليّ، يرافقني صوتها في مقطعٍ صوتيٍّ مسجّلٍ لها، لينساب الشّعر ويتخلل مسامّ روحي، فأنسى القصيدة ويتردد صوتها داخلي كلازمةٍ شعريّة تدفعني للكتابة. أسماء تجتاز الحدود بقصائدها التي يتلعثم كثُرٌ أثناء قراءتها؛ فهي تكتب الحقيقة الوحيدة التي تشعر بها، ولا تخشى البوح بحزنٍ أو فرحٍ أو قلق، أو تعبر عن غضبٍ فتقود ثورة بلاغية على اللغة والمجاز. إنها أسماء التي تنفخ الحياة في القصيدة وتُسكنها في غابة لغتها. وكأيّ فلّاح، تشذب أرض شعرها وتحرثه، وتزرع فيه الصوت والصور والذاكرة والأفكار الحسية، وفي موسم القطاف تدعو قراءها لجنى خيرات هذه الأرض ليتذوقوا شعرها كلٌ في فنائه.


  • حدثينا عن مزاج أسماء الشاعرة وما الذي يلهمها في اليوم العادي لتكتب قصيدة؟

توقّفت الكتابة عندي، منذ زمن، عن الارتباط بالمزاج. في مواسم الإنتاج، تكون الكتابة فعلًا يوميًّا صباحيًّا أتحضّر له كمن يتحضّر للقاء عمل. أستيقظ باكرًا جدًّا، أعدّ قهوتي، أضع هاتفي جانبًا، وأغلق الباب على نفسي. هذا لا يعني أنّ النص سوف يأتي إليّ راكضًا. قد أجلس ساعات دون الخروج بسطرين مرضيين، سيّما في الكتابة الشعريّة. لكنّي لا أترك الأمر لما تبقّى من النّهار، لا أعيش مع القصيدة في رأسي، أعيش معها أثناء كتابتها فقط. هناك تكمن علاقتي فيها، في غرفة الكتابة وفي الوقت الحميم المخصّص لها. فهي لا تعيش دون مجالها الحيويّ بالنسبة لي؛ وهو اللغة. أي إنّها لا تتكوّن كفكرة – وحدها - في ذهني، بل تحتاج إلى اللغة كي تولد وتعيش. وما يُلهمني متأتٍّ من المكان نفسه؛ من لقاء الفكرة واللغة أو من حيث هما شيءٌ واحد. يحدث صدفةً أن أفكّر بفكرة ثم أجيئها باللغة عند الكتابة. تلهمني أكثر الأشياء التصاقًا بحياتي الشخصيّة؛ تاريخي الشخصيّ، أجدادي، أرضي، حدادي على أبي، لكن أكثر ما يلهمني ويدفعني إلى الكتابة هو اللغة نفسها حيث إنّها الماء الذي تعيش فيه الأفكار وتجد لها معنى.

أسماء عزايزة: أكثر ما يلهمني ويدفعني إلى الكتابة هو اللغة نفسها حيث إنّها الماء الذي تعيش فيه الأفكار وتجد لها معنى

  • كيف اختلف إنتاج كل مجموعة شعرية عن الأخرى؟ هل رافقتك طقوس كتابية ما؟ هل توجد عناصر ملموسة أو حسية تذكّرك بعملية الكتابة آنذاك؟

ثمّة اختلافات صنعتها الظروف الحياتيّة والتجربة. ففي المجموعة الأولى، مثلًا، لملمتُ قصائد كتبتها على مدار ثلاث سنوات فوجدتها وقد أصبحت مجموعة. وكنتُ كتبتها في فلسطين وألمانيا. أمّا الثانية، فكانت الكتابة متّجهة مسبقًا نحو مجموعةٍ واضحة الثّيمات. وقد كتبتُها في مقهى مجاورٍ لبيتي في حيفا. اخترتُ مقهى لا يرتاده أصدقائي كيلا يزعجونني وأزعج نفسي بهم. ولا أذكر كيف كتبتُ الثالثة. لكنّ في العموم، تتبدّل الطقوس وأخالها تُشبه التجربة التي تمرّ بها الشاعرة أو الشاعر. قد تذكّرني مقطوعة موسيقيّة بفترة كتابيّة ما؛ أذكر مثلًا مقطوعة لباخ تذكّرني بالمجموعة الأولى، ومقطوعة للفنان محمّد حدّاد بعنوان "ابن يامن" من ألبوم طرفة الذي استلهمه من ديوان طرفة للشاعر قاسم حدّاد؛ تذكّرني ببعض قصائد المجموعة الثالثة. ثمّة طاولاتٌ في مقاهي حيفا تذكّرني بفترات كتابةٍ دون غيرها.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة أسماء عزايزة

  • شاركتنا في حسابك بالإنستغرام الكثير من الصور لمساحتك الكتابيّة وما طرأ عليها من اختلافات وتعديلات؟ هل لديك مساحة محدّدة ثابتة؟

لديّ مساحتان أساسيّتان؛ واحدة في بيتي في حيفا والأخرى في بيت أمّي وأبي في القرية. هذه مساحةٌ جديدة، إذ لم أعتد على الكتابة في بيت العائلة، لكن مع ترميمنا لجزءِ البيت الشرقيّ، واستعادتنا للكوّات القديمة فيها، وتزامنًا مع الحجر الصحيّ الأوّل الذي أتاح لي الكتابة هناك، أنشأتُ لنفسي غرفة كتابة. وفي نفس الغرفة جمعت جزءًا من كتبي والكتب التي ورثتها من أبي ومن جدّي لأمّي ومن شخصَين توفّيا ولم أعرفهما. ولأنّي طمّاعة جدًّا في مثل هذه الأركان، أهمُّ بإنشاء زاويةٍ جديدةٍ في العقد المجاور لبيتنا، وهو بيت حجريّ الذي بناه جدّ أبي أوائل القرن الماضي بعقدة كبيرة في السّقف، ولدتُ فيه وعشت حتّى العاشرة من عمري. أمّا غرفة الكتابة في حيفا فكانت غرفةً صغيرةً جدًّا، في بيتنا القديم في الحيّ الألمانيّ في حيفا، ذات نوافذ خشبيّة تطلّ على شجرة توت باسقة. هذه الغرفة عزيزةٌ جدًّا على قلبي، فهي ربّما الغرفة الأولى التي أمضيت فيها وقتًا كبيرًا من أجل الكتابة. لكنّي ومع قدوم طفلي سينا قبل شهرين استغنيتُ عنها، فعوّضتُ نفسي بطاولةٍ خشبيّةٍ قديمةٍ في غرفة سينا. أكتفي بها وبأدراجها القليلة وبعض الأغراض الثمينة التي أضعها فوقها.

بالإضافة إلى هاتين المساحتين، فأنا أحبّ الكتابة في المقاهي، أنتقيها بدقّة عالية؛ عليها أن تكون هادئةً، إضاءتها خفيفةٌ، مقاعدها مريحةٌ وطاولاتها فسيحةٌ بعض الشيء. وأكثر ما أفضّل هو الكتابة في مقاهٍ في مدنٍ غريبة، لا يعرفني فيها أحد.  

  • عندما تجدّدين هذه المساحة؟ ما هي العناصر التي تحرصين على وجودها باستمرار حولك؟ وما هي العناصر التي تستغنين عنها وتستبدلينها؟

أفضّل أن تكون المساحة دافئة، ولا أقصد درجة الحرارة، إنّما الدّفء الذي تمنحه الألوان الحارّة والأثاث القديم، ورفوف الكتب. أحبّ أن أرى الخشب لا البلاستيك؛ فأنا أمقت البلاستيك. أحبّ أن تقابلني نافذة، ففي مساحتيّ الكتابة في القرية وفي المدينة ثمّة نوافذ، قد لا تطلّ على أفقٍ بعيد، لكنّها كافيةٌ لتبعث ضوء النّهار إلى الغرفة. أتعايش مع طاولةٍ نظيفةٍ من الأغراض، إن اضطررت إلى ذلك في الكتابة في الخارج مثلًا. لكنّي أفضّلُ - إن استطعت - أن أوفّر بعض الأغراض الخاصّة بي حولي، كدفترٍ أو مقلمةٍ أو أحجارٍ أو محبرة.

  • ما هي حكايتك مع القطط والنباتات؟

ولدتُ لأمٍّ تحبُّ القطط وتعطف عليها، وتحبُّ النّباتات حبًّا يضاهي حبّها للبشر. تبكي إن ماتت وردةٌ أثيرةٌ عليها. وُلدتُ لأبٍ فلاّحٍ عاش في السّهول وعمل في الأرض. اعتدتُ أن أشارك - في الأقل - في موسم قطاف الزيتون، وأن أبحث عن الخبّيزة والعلت والزقوقية مع أمّي في الوعور. فورثتُ حبّ الأرض والأشجار والنبات. وأعتقد أنّ حياة القرية - خاصّة قبل عصر الإنترنت - لا يمكن أن تترك أبناءها دون أن تشنقهم إلى الأرض وثمرها. كذلك، اعتدت على وجود القطط في البيت وحوله. لديّ الآن قطّ أسود اسمه سومر، لطيفٌ وحنونٌ ومستكشفٌ. ثمّة من لا يحبّ القطط لأنّها "باردة" مع البشر على عكس الكلاب، أو ناكرة للجميل. وأنا أقولُ إنّ القطط على عكس ما تبدو. هي أكثر قربًا إلينا مما نعتقد. لكنّها لا تبني معنا علاقة "الكلب بسيّده" وهذا ما أحبّه فيها. ثمّة نديّةٌ جميلةٌ في علاقتنا معها. قبل فترة سافرت أنا وزوجي لأسبوعين وتركنا سومر مع أحد الأصدقاء، عدنا لنجدهُ يعاني من صدمةً نفسيّةً بسبب غيابنا عنه، فأصيبَ بجفافٍ والتهابٍ في المعدة. هل هناك حبٌّ أكبرُ من هذا!

أسماء عزايزة: أعتقد أنّ حياة القرية - خاصّة قبل عصر الإنترنت - لا يمكن أن تترك أبناءها دون أن تشنقهم إلى الأرض وثمرها

  • ما هي المساحة التي صنعتِها في عالمك الشّعري بعد تجربتك مع هيا زعاترة؟

منذ نحو عقد من الزّمن، اكتشفت رغبتي في خوض تجارب يتجاور فيها الشّعر والموسيقى على الخشبة. ولا أقصد الموسيقى الناجزة، بل تلك التي تُنشأ كي تحتوي القصيدة، كي تجعلها مرئيّة وحيّة، كي تنحتها وتضع لها شكلًا قابلًا للّمس. أطلقتُ مجموعتي الشعريّة الثانية والثالثة بالتزامن مع عروضٍ صوتيّةٍ بصريّةٍ تشاركتُ فيها مع موسيقيين وصنّاع فيديو. في الأخيرة، شاركتني الفنّانة هيا زعاترة والمخرج آدم زعبي. العجيب في أمر هذه التجارب، هو اكتشافكِ لمخابئ في المعنى والإيقاع في قصائدكِ عبر الآخرين. فالصّوتُ الذي أضافته هيا - سواءً من حنجرتها أو جيتارتها - والأصوات التي أنتجتها من خلال الجهاز الذي تستخدمه في العرض، فجّر تضاريس جديدة لمَتن القصيدة، فجعلها تحيا كما لو أنّها روح نُفخت فيها. ثمّة حساسيّةٌ عاليةٌ جدًّا اشتغلَتْ هيا من خلالها على صناعة الصّوت، وأنا ممتنّةٌ لهذه الحساسيّة التي تأتي من فنّانةٍ ذات نظرةٍ وحرفةٍ شموليّةٍ تجاه الموسيقى والغناء والتّلحين.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| يولاندا غواردي: مهمة الأدب تدمير الكليشيهات

  • كيف تصفينَ لنا مساحتكِ الكتابيّة قبل الأمومة وبعدها؟

لم أعد بعدُ إلى الكتابة منذ ولادتي لطفلي سينا قبل ثلاثة أشهر. أتحضّرُ الآن إلى العودة إلى الكتابة للانتهاء من تحرير كتاب مذكراتٍ جديدٍ كنتُ كتبتهُ على مدار أكثر من سنتين. يوثّق عامين من الحداد على الأب ويتأمّل في مفهوم الموت والجسد والروح والذاكرة والتقمّص وثقافات الموت والوداع. كثيرون يقولون إنّ الكتابة تتأثّر بعد الإنجاب. لا يمكنني فهم هذا الشيء بعد. ربّما لن أفهمهُ قَطّ. أعرف أنّني أنتظر أن أكتب عن الأمومة نفسها. لكنّي لا أدري إن كان شكلُ الكتابة عن أشياء أخرى خارجها سيتغيّر بشكلٍ مباشر. سأترك الأمر للزّمن والشّعر.

  • هل سبق لك وشاركت في خلوات كتابية أو كتبتِ ضمن دعم مجموعة؟ أخبرينا عن هذه التجارب

لا. على الرّغم من أنّني محاطةٌ بالصديقات والأصدقاء الشعراء والكتّاب. إلا أنّ تجاربي الكتابيّة تظلّ في إطار الفعل الفرديّ "السّرّيّ"، وقلّما أشاركها معهم. قد أشارك نسخًا نهائيّة لبعض القصائد. مجموعتي الشعريّة الأخيرة، التي ستُنشر قريبًا، لم أشاركها إلا حين انتهيت منها مع صديقتين أو ثلاث. وكتاب المذكّرات لم أشاركها مع أحد بعد. ربّما لأنّني خضت فيه في تجربة نثريّة جديدة لا أثق بنفسي الكاتبة فيها تمامًا. فأشعر معها بالحيرة والتردّد والتوجّس.

  • ما هو طموحك وحلمك الذي تأملينه للمرأة الكاتبة؟

تُختصر طموحاتُ الكتابة بالاستمرار في الكتابة فحسب! فخوفُ كلّ من يجد ضالّته في الكتابة هو أن يفقدها أو يفقد نفسه فيها. الطموح في الانتشار والوصول إلى قرّاء أكثر يصبحُ هامشيًّا، هامشيًّا على مستوى الممارسة اليوميّة والاهتمام اليوميّ، مقابل إيجاد وقتٍ للكتابة واصطياد الأفكار والتّجدّد. باختصار، أحلمُ بأن يظلّ النبعُ يغدقني بما عندَه، أمّا مجراهُ ووجهتهُ فأنا راضيةٌ عنهما مهما كانت طبيعتهُما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| طارق إمام: المدن الأكثر حداثة تبدو لي وثنيةً

حوار| الشاعر بيتر نوبيرغ: الشعر السويدي معادٍ للاستهلاك