21-ديسمبر-2019

الروائي طارق إمام (ألترا صوت)

طارق إمام أحد الكتاب الذين يشغلهم سؤال المدينة، تنقل بين ثلاث مدن مصرية: القاهرة والإسكندرية ودمنهور، تركت كل منها طابعها بداخله، القاهرة بطابعها القاسي والإسكندرية بطابعها الكوزموبوليتاني ودمنهور بطابعها الهادئ. لكلٍّ أثر نجده داخل كتابته التي يتقاطع فيها أثر المدينة مع شخصية البطل فيصبح أحد أهم مكوناته وبواعثه لارتكاب ما يفعل، جميلًا كان أم قبيح.

25 عامًا تقريبًا هو العمر الأدبي للكاتب المصري طارق إمام على الرغم أنه ما زال في أوائل الأربعينات، بدأ رحلته مع الكتابة مبكرًا جدًا بالشكل الذي مكنه من التنوع بين القصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي وغيرهم من فنون الكتابة التي نزل إلى ساحاتها فترك أثرًا ربما حسده عليه مجايليه، لتمكنه رغم حداثة سنه من النزول إلى أرض صعبة المراس كالساحة الأدبية المصرية، قدم خلال مسيرته الأدبية 13 عملًا في عدة أبواب أدبية لم يعرف الثبات على أحدها يومًا.

ربما يكون سؤال طارق إمام مغايرًا لما يحمل من أسئلة، كل هذا التنوع وكل تلك الأعمال التي لا تخلو من الطابع الخيالي رغم اختلاف أنواعها، لا بد أن سؤال الحيرة يختبئ خلف أوراقها، فما الذي دفعه إلى هذا التنوع الذي يغضب النقاد ويقض مضاجع القراء الذين ربما أحبوه في شكل أدبي معين؟ مع صاحب "مدينة الحوائط اللانهائية" و"طعم النوم" كان هذا الحوار.


  • صدرت مؤخرًا روايتك "طعم النوم"، في ظل تنوعك الأدبي لماذا اخترت قالب الرواية لتصب فيه حكايتك؟

"طعم النوم" معارضة روائية لروايتين هما "الجميلات النائمات" لياسوناري كاواباتا و"ذاكرة عاهراتي الحزينات" لجابرييل جارسيا ماركيز معًا. هي ولدت كرواية تحاور جزءًا من تاريخها الروائي، وفي الحقيقة هي في عمقها تساؤل عن السؤال الروائي نفسه لذا لا تخلو حتى من جانب نظري.

طارق إمام: المدينة تخلق الفرد كمفهوم، وتعمل جاهدةً على إذابته وتهميشه وتنميطه وتسليعه

اقرأ/ي أيضًا:حوار| محمد المطرود: ولدتُ في بيئة أحزانها عظيمة وأفراحها صغيرة

  • كانت القاهرة مسرحًا لروايتك "هدوء القتلة"، والإسكندرية هي مسرح روايتيك "الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" و"طعم النوم"، إلى أي مدى أنت مشغول بسؤال المدينة؟

المدينة هي من تخلق الفرد كمفهوم، وهي من تعمل جاهدةً، بالقوة نفسها، على إذابته وتهميشه وتنميطه وتسليعه. في الروايات الثلاث التي ذكرتها يلح هذا السؤال لأنه، ومن قبل الأدب، هاجس شخصي. ربما أضيف ضلعًا ثالثًا لهذه الثنائية هو ضلع الكتابة. فأنا لا أكف عن التساؤل عن الكتابة داخل الكتابة، وأغلب شخصياتي تمارس الكتابة سواء كتبوا قصائد أو روايات أو رسائل أو يوميات حتى. المدينة تحتفي بالصورة، المدينة هي الملصق والبوستر والأفيش والإعلان، وحتى المدن الأكثر حداثة في العالم تبدو لي أحيانًا ارتدادًا وثنيًا، حيث الصورة هي وسيلتها الناجعة لتوحيد النمط بين أنماط متنافرة ثقافيًا وطبقيًا، وكأن المدينة تعمل ضد جوهرها. كيف تجسر الكتابة الهوة بين الفرد والمدينة؟ أم أنها توسع من هذه الهوة لأنها فعل مقترن بالفرد المغترب ولأنها تناوئ بطريركية الصورة المدينية؟ لا أكف عن التفكير في هذه الأسئلة ومن ثم تعيد التعبير عن نفسها مرة بعد مرة في نصوصي على اختلاف الحكايات وطبائع الشخصيات وتراوح المدن. أستطيع أن أقول إن أفرادي مهزومون في مدن مهزومة، حتى لو لم تعترف تلك المدن بذلك.

  • ينتمي كتابك "مدينة الحوائط اللانهائية" إلى نوع الحكاية الخرافية الذي نجد التراث يحتوي على نماذج عديدة منه مثل "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة". إلى أي مدى أنت مشغول بسؤال التراث؟ وهل ترى لأنه يحتاج إلى إعادة قراءة؟

أرى أن التراث بحاجة لما هو أبعد من إعادة القراءة، أقصد التفكيك. ثمة في التراث ما يحتاج إلى إحياء، وثمة في التراث، ودعني أقولها بلا مواربة، ما يحتاج إلى مقبرة.

ما يحيي التراث هو قدرته على أن يكون فاعلًا في نص الحاضر، وجزءًا منه، وليس سلطة متعالية أو مرجعية تلامس المقدس وترفض أن تمس. التراث الحي هو التراث الحاضن لقيم التنوير والتقدمية وهو للأسف تراثنا المعاقب. "ألف ليلة وليلة" حية لأنها ما تزال قابلة للتعاطي، بل وفاعلة في المخيلة ودالة حتى على الواقع.. وربما لهذا عوقبت طوال الوقت وعانت المصادرة والتهميش وسوء السمعة. أبو نواس والمعري، الشاعران الأهم في تاريخ القصيدة العمودية من وجهة نظري، هما الأشد استبعادًا ونبذًا بسبب "المجون" و"التجديف".. ألا ترى معي أن أهم ما في تراثنا ما يزال منبوذًا؟ السلطات تختلف في ما بينها حد التقاتل، لكنها جميعها تتفق على عدوها، لأنه لا وجود لفن حقيقي، منذ فجر التراث، ترحب به السلطة، سياسية كانت أم دينية.

طارق إمام: في التراث ثمة ما يحتاج إلى إحياء، وثمة ما يحتاج إلى مقبرة

  • أنت كانت متنوع في إنتاجك، تتجوّل بين القصص القصيرة جدًا إلى الروايات. كيف ترى هذا التنوع؟

الحكي هو مادة السارد، وهو لا يقف عند شكل واحد أو قالب دون الآخر، أو على الأقل هذه هي المسألة بالنسبة لي. كتبت قصصًا من سطر واحد وروايات من عشرات الآلاف من الكلمات، وفي جميع الحالات كنت أبحث عن بعث حكاية ما عبر اللغة، لأن الأدب في ظني هو وجودٌ تبعثه اللغة، وهي بدورها سؤال آخر، لأن اللغة ليست قالبًا جاهزًا نعبئه بالأفكار.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| بسام أبو ذياب: أستوحي من الطقوس الدينية تعابير جسدية للرقص المعاصر

  • كيف تعامل النقاد مع هذا التنوع؟

دعني أعترف لك بأني كاتب محظوظ نقديًا، وحظيت تجربتي باهتمام نقدي من الأجيال النقدية المختلفة على اختلاف حساسياتها وأدواتها.

  • ما هي رؤيتك للمشهد العربي النقدي المعاصر؟

أتمنى أن يتحرر من الجفاف الأكاديمي المدرسي باتجاه القراءة الإبداعية للأدب. أفضل نقاد العالم مبدعون، والنقد نفسه قراءة إبداعية موازية للأدب وليس غرفة عمليات يرقد فيها النص كجثة تحت مشرط الطبيب. ولحسن الحظ، فقد تقلصت سلطة النقد الأكاديمي كثيرًا خلال السنوات الفائتة وأذابت وسائل التواصل الاجتماعي ما أسميه "الفوارق الطبقية الأدبية" بين مبدع وناقد وقارئ.

  • هل من الممكن أن تقوم بتجربة لأنواع أخرى من الكتابة في المستقبل؟

أنا فعليًا أمارس أكثر من نوع من الكتابة، أكتب القصة والرواية والكوميكس وأمارس النقد الأدبي، فضلًا عن مهنتي كصحفي التي أمارس عبرها فنونًا مختلفة من الكتابة غير التخييلية من الخبر للمقال للتحقيق. أتحرك بين كل ذلك بسلاسة، فلا حدود صلدة بين الأنواع، وكل الأشكال تستفيد من هذه "العدوى". أكره الهويات الثابتة ولا أراها موجودة أصلًا سوى على الورق، وبالمقابل أعشق التلاقح والتهجين بين الأشكال المختلفة، وبحث تصبح الهوية الأدبية مفهومًا قلقًا على طول الخط لا تكف عن إعادة تعريف نفسها مع كل نص جديد.

  • هل تعد الجوائز الأدبية دليلًا على نجاح الكاتب أم أنها علامة جودة ما يكتب؟

الجوائز الأدبية، خاصة الكبيرة منها والتي ظهرت خلال السنوات الماضية، لعبت دورًا كبيرًا في إنعاش سوق القراءة وصناعة الكتاب، وبخاصة الروائي، ووسّعت هامش التلقي بإدخال القارئ العادي في المعادلة، وهو دور ليس بالهين. الصناعة كلها استفادت من الجوائز بغض النظر عمن فاز أو خسر من الكتاب في هذه المسابقة أو تلك.

طارق إمام: أبو نواس والمعري، الشاعران الأهم في تاريخ القصيدة العمودية، هما الأشد استبعادًا ونبذًا بسبب "المجون" و"التجديف"

  • هل ترى أن هذه الجوائز تدفع الكاتب إلى تقديم تنازلات معينة؟

الرواية أكثر تخلصًا من هذه الآفة من الشعر، حيث ما تزال أغلب الجوائز الشعرية تذهب للشعر التقليدي وتستبعد قصيدة النثر مثلًا رغم أنها أصبحت متن المشهد الشعري العربي الجديد، وهناك شعراء كثيرون يعملون كـ"ترزية جوائز". أعتقد أن الرواية، ورغم أنها أحدث عهدًا بالثقافة العربية من الشعر، (أو ربما بسبب ذلك)، تشهد مرونة أكبر وأحيانًا ما تكافأ فيها الكتابة التجريبية والطليعية. بالنسبة لي لم أقدم يومًا تنازلًا إبداعيًا من أجل جائزة أو من أجل إرضاء الذائقة السائدة، سواء كانت ذائقة القراءة أو الذائقة النقدية، ورغم ذلك حصلتُ على عدد كبير من الجوائز وحظيت باحتفاء نقدي وقرائي أمتن لهما. لا أريد أن أقول كلامًا إنشائيًا، لكن الكتابة بالفعل هي طريقتي للاحتفاء باختلافي وبعدم اتساقي و"بنشوزي"، وأرى أن تحويلها لوسيلة إرضاء شخص أو جهة أو ذائقة هو فعل ضد جوهرها بالضبط، وضد وجودي نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| يولاندا غواردي: مهمة الأدب تدمير الكليشيهات

  • تشكل الفانتازيا عاملًا أساسيًا في بناء حكاياتك، إلى أي مدى ترى ضرورة تقديم أدبك من خلال الفانتازيا والخيال؟

الأدب هو الخيال، والفانتازيا طريقة مغايرة لقراءة الواقع عبر منح المخيلة حقها الأقصى في إعادة تعريف العالم. الأحلام جزء من واقعنا، نولع بتفسيرها كي نهذبها ونجعلها "معقولة" وقريبة من مادة الواقع وشروطه.. لكن الفن يصبح أجمل عندما يكون حلمًا لا تفسير له.

  • أي المدن أكثر إلهامًا لك، وما الذي يلهمك فيها؟

إلهام المدينة بالنسبة لي نابع من تعقيدها وليس من تجانسها، لأن المدينة الحقيقية تجافي فكرة التجانس أصلًا. المدينة هي وعاء لاستيعاب التنافر، وهو ما نسميه تجميلًا "التعايش"، وفي سياقات قبل-مدينية كالتي نعيش فيها عربيًا، تغدو المدينة وعاء للتصادم وكافة أشكال المواجهة. من هنا تتحقق المدن في رواياتي، سواء كانت قاهرة "هدوء القتلة" أو إسكندرية "كفافيس" و"طعم النوم". بل إنني ألجأ أحيانًا لتشييد مدينة غير مسماة كما في روايتي "الأرملة تكتب الخطابات سرًّا"، أو منحها تسمية متخيلة كـ"جبل الكحل" في رواية "ضريح أبي" و"مدينة الحوائط اللانهائية" في الكتاب القصصي المعنون بنفس العنوان.

طارق إمام: أكره الهويات الثابتة ولا أراها موجودة أصلًا سوى على الورق

اقرأ/ي أيضًا: حوار| ميشيل أونفري: نعيش في واقع رواية 1984

  • ما الأعمال التي من المنتظر صدورها لك؟

أعمل على مجموعة من القصص/ الومضات بعنوان "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها"، هي نصوص كثيفة لا يتجاوز أطولها المائة كلمة، وربما يكون هذا هو كتابي القادم إن لم تقطع رواية الطريق عليه!

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| الشاعر بيتر نوبيرغ: الشعر السويدي معادٍ للاستهلاك

حوار | الغربي عمران: لا أزدري الأديان لكن لا أستوعب "العبودية"