14-مايو-2017

فهد الحلبي/ الجولان المحتل- سوريا

الصباحُ ناشفٌ كرائحة البارود التي تفوح من أوراق الشجر المتخمة بثاني أوكسيد الكربون. يقرص البرد عدستي نظارتي في ظلّ الحائط الغربي لكليّة الآداب في جامعة حلب، فأرى العالمَ مكسورًا كفنجانِ قهوةٍ بارد. أفتشُ عن رقمِ قاعتي التي سأقدمُ بها مادة اليوم، أسألُ نفسي عن نوعِ هذه الفلسفة التي تُصيب الزمان والمكان الآن، فيقاطعني سؤال أحدهم: أستاذ علي؟ 

ألتفتُ إليه وأصافحهُ بحرارةِ الصدفة، أكسر الدهشة بسؤالي: ماذا تفعلُ هنا يا جاسم؟ فيجيب بثقة الناجح: أنا في السنة الأولى قسم الفلسفة يا أستاذ. أضحكُ بشفاهٍ يابسة مغطاة ببياضِ غبار البارود: إذن لا تنادني أستاذ، فأنا في السنةِ الثانية قسم الفلسفة، نحنُ زملاء. يضحكُ لعظمةِ إنجازه، ويرفعُ من معنوياتي: لا.. أنتَ أستاذي رغم كل شيء. 

كان جاسم أحد الطلاب الذين درّستهم منذ خمس سنوات، حيث كان في الصف التاسع، وكنت قد أنهيت الثانوية معلمًا لا حولَ له ولا خبرة. كيفَ مرّت السنوات بعد 2007؟ كيفَ نسيتُ الطريق وحكاياه مع رفاقي من الطلاب؟ 
الطريق الذي يمرّ قربَ مدرسة قريتنا "الحجر الأبيض"، ويُكملُ مسيرَهُ شرقَ المقبرة إلى الشمال، الشمال القريب الذي لا يملك أن يكون حصّة إملاء. إنّه طريق "الجلال"، الطريق الذي مشيتُه لأوّل مرة في ربيع 1996، كنتُ من بين الطلاب المشجعين لفريق مدرستنا بمباراة لكرة القدم مع فريق مدرسة أم جلال.

أم جِلال ليست سيدة، فالجيمُ مكسورةٌ كحالِ البلاد، والجِلال حين تُكسَرُ جيمُه يتحوّل إلى غطاءٍ يلفّ ظهرَ الحمار، يُصنَعُ من الخيش أحيانًا، وأخرى من القماشِ الثخين المحشوّ بالقطن. كانت كلّ القرى المجاورة تحطُّ من قيمة الشيء بتشبيهه بأمّ جلال، حتى يبدو للسامعِ أنّها أسوأ القرى، فلكأنّهُ يشتمُكَ حينَ يقولُ لكَ: "مثل أهل الجِلال". وفي يومٍ صيفيّ أخذني أبي مشيًا لنزورَ بيتَ مختار هذه القرية، كانَ بيتًا جميلًا ببساطتِه، بأكلِه المُعَدّ بالسمنِ العربي، والمقدّم مع خبز الصاج المخبوز على أيدي النساء، لا فرق واضح بين القريتين سوى أنّ أم جلال ما زالتْ تُحافظ على فِطرة القرويّ وبساطته. لن أنسى الشبابيك البسيطة المفتوحة على جهاتٍ كثيرة، رائحة الحياةِ العابرة إلى صدرك، وكأس الشاي الجميلة بلونها الداكن.

كعادتها مرّتِ الأيام سريعةً مثل ضحكة، وأصبحتُ معلمًا لمادة اللّغة العربية، فيما لم أدخلِ الجامعة بعد، يفصلني عن الطلاب عامان أو ثلاثة فرقًا في العمر، خفتُ من الحصة الأولى كخوفِ الطفلِ حين يدخل المدرسة بحصتها الأولى، قضيتُ أعوامًا أتنقّل بينَ خمس مدارس وكانت السادسة "مدرسة أمّ جِلال" حيث صرتُ مُعلمًا دونَ قصد، ودون قصد عدتُ لأمشي الطريق ذا المنخفضات والمرتفعات المطلّة على نهرِ الفرات، دخلتُ الصفّ السابع كأوّل خطوة، استطعتُ أنْ أبدأَ مع دمجِ أساليبِ كلّ مَنْ علّموني بأسلوبٍ خاص، رحتُ أخوضُ التجربة الممتعة مع طلابٍ يشبهونني بكلّ التفاصيل، صارَتْ علاقتي بهم علاقة صداقة، رسمنا حنظلة ولعبنا كرة القدم التي لا أحب، قرأنا الشعر وغنّينا أجملَ قصائدهِ الفلسطينيّة، تحدثنا عن فسادِ نظامنا، ثمّ ربّتنا على كتفِ الجدار الذي كانتْ له آذان قويّة السمع في حينِها. لم تكنْ معلوماتي قادرة على تأهيل طلاب الصفّ التاسع لنيلِ الشهادة، ومع ذلك فقد نجحت بأنْ أكونَ المدرّس رقم واحد بسبب روح أولئكَ الطلاب، بساطتهم، أدبهم، وتربيتهم على خُلِق الفطرة.

فعلاً كانتْ أمّ جلال تختلف عن باقي القرى بكبرِ إيجابياتها، فأهلُها قطعة واحدة في السرّاء والضرّاء، ومدرستها من أحدثِ المدارس في المنطقة، إنّها قرية بريئةٌ كبرائةِ رهف طالبة الصف الأوّل الإبتدائيّ التي قرصْتُها من خدّها ففاضت شلالات دموعِها كأفلام الكرتون، لم يوقفها عن ذلك سوى محاولتي بخطفِ المشهد خارج الصف بحديثي عن ذلكَ الجحش الأبيض الصغير الذي قلبَ معادلة البكاء إلى فانتازيا ضحكٍ طفوليّ، فاختلط اللعاب بدموع العينِ والأنف، ضحكنا جميعًا بصدق. أعطيتُ رهف الطبشورة لتكتب حرف (a) على السبورة، صفّقنا لها كلّنا، فيما الابتسامة علَتْ شفتيها، كانَ الفرح سهلَ الصنع، لم يحتَجْ أكثر من هذا الصدق.

أوصيتُهم بأن لا يكبروا، فذلكَ خطأ كنّا قدِ ارتكبناهُ عندما كنّا على قيدِ الحياة، تركتُهم في أحضانِ كانونَ الباردَ، وغادرتُ إلى أحلامي التي اهترَأتْ ألوانهُا فأحرقتْها أمّي في "صوبة" الحطب.

ومرّ الوقتُ الذي لا يتعب، مرّ حاملًا على ظهرِهِ موتًا لا قِبلةَ له سوى الحياة، أُغلِقتِ مدرسة أمّ جِلال ومدارس القرى الأخرى، توقّف الجميع عن الفرح، كبروا حدّ الشيخوخةِ، فالحربُ لم تشفقْ على أحد، لم يعد لديهم أحلام يرسمونها، راحوا يتعلمون الأرقام من جباه القتلى، ويسرقونَ الأوكسجين كي تستمرّ أنفاسهم.

كبروا إذن، تركَ إبراهيم كليّة العلوم والتحقَ بتنظيم داعش، وبعد شهرين توفي في قصف للتحالف على أحد معسكراتهم. أنهى محمّد السنة الخامسة طبّ بشريّ في جامعة حلب، تركَ عمّار كلية التربية وجلس يعملُ ناطورًا لإحدى بناياتِ بيروت. غادرَ عبدالله، مؤيد، عامر ومحمود جامعاتهم لصالح ورشاتِ بيروت. فراس، أحمد، عبد، عنود وأمينة تزوجوا وصارَ عندهم أبناءٌ ولدوا في سنة الحرب، وذلكَ الشابُ الملثم الذي التقى بصديقي في إدلب وأخبرَهُ أنّه تطوّع مع جبهة النصرة، وأنّه لن يعرّف باسمِه لأن "أستاذه علي" ضدّ الجبهة وأفكارها، تركَ جامعته أيضًا والتحقَ بالحربِ ظنًّا منه أنْ لا نجاةَ من الموتِ سوى الموت.

لم يبقَ أحد كما تركتهُ، كلّهم كبروا إلّا أنا، ما زلتُ أحلم بدرس نصوص، وبنشيدٍ عالٍ في ساحة المدرسة: أناديكم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حكايا "الجرية": داليم الدشّاوي

حكايا "الجرية": البئرُ الهرم