05-ديسمبر-2016

فاتح المدرّس/ سوريا

الجرية: هي لفظة عاميّة لكلمة قرية، إنّها اللهجة الريفيّة، أو كما تدرجُ تسميتها اليوم "اللهجة الشاويّة". حرف القاف في اللهجة الشاويّة متعدّد الأوجه ويندرُ وجوده قافًا، كأنْ يكونَ جيمًا مصريّة، أو جيمًا رسميّة. 

إذن "الجرية" هي القرية، وقريتنا هي قرية "الحجر الأبيض"، التي يتوسطها بئر رومانيّ يحمل اسم "البئر الهرم"، حُفِر باليد ورُصِفت على حوافّهِ حجارة منذُ زمنٍ بعيدٍ جدًا، يُحكى أنّ مياهه تأتي عبرَ تخطيطٍ هندسيّ متصل بمنبعٍ واحد لا يُعرَف مكانُه يغذّي كلّ الآبار الرومانيّة الموجودة في القرى المجاورة، يُسمّى الخطّ الجوفي الذي يصل تلكَ الآبار بعضها ببعض: "سَرَب". تروي لنا حباباتنا/جداتنا أن أوّل من قطنوا هذه الأرض من أهل القرية وجدوا الماء يطفو من البئر الهرِم، حيثُ ترِد الغزلان عليه.

كل الحكايا التي تُروى كانتْ تبدأُ في خيالي من البئر الهرم، كلّما قصّت لنا حبّابتي "خورافة" كان البئر نقطة ارتكازها، وأغلب الأحداث كانت تدور في بيت عيسى البرهي، حيث مسرح الخيال يكون كالتالي: البئر وسط القرية، بالاتجاه الجنوبي بيت عيسى البرهي -الذي تزوج كثيرًا من النساء وأنجبَ أبناءً وأحفادًا ما يعادل قرية- أمامَ بيتِه بستان كبير وجميل يُسمّى: الدولاب، تسيّجه أشجار الرمّان، على الزاوية الجنوبية الشرقيّة جامع القريةِ الوحيد، وبمواجهة الجامع "حوش حليمة" الذي يأوي جلَسَات الشباب وحكاياهم، اصطفاف البيوت الترابية المجاورة لبيتِ عيسى البرهي إلى جانب بعضها البعض بعلوّ متفاوت يمنحُ خيالَ الطفلِ/أنا فرصًا لسيناريوهات كثيرة.

كانت أمهاتنا يخفْنَنا من الاقتراب صوب البئر، كي لا نقع ونغرق كما حدث مع أحدهم في سابقِ العهد، إذ يبلغُ قُطر البئر أكثر من متر، وهو مرتفعٌ عنِ الأرضِ كارتفاع الرصيف، ويظلّ مفتوحًا في الليلِ والنهار.

أذكر جيدًا تلكَ الصورة الراسخة في الذاكرة؛ ثقبٌ في راحةِ الأرضِ يجمعُ الناسَ حولَه بحالتهم المختلفة طلبًا للحياة، فالماءُ هو الحياة. تجتمع عليه فتيات القرية الجميلات بدلائهن وزيناتهنَّ، يتحدثنَ وهنّ "ينشلنَ" الماءَ العذب في الزمن العذب، حيث الشباب "الجُهّل" كما يُطلق عليهم، يتأنّقون ويجتمعون على الطرقات المؤدية إلى البئر، فتنظر لأحدهم إحداهن وتبتسم، عندها ينفطر قلبه ويصبح قيس العصر الجديد، إذ يكفي أن يرى ليلاهُ مرةً في اليوم تَرِدُ من البئر ليعيش أسبوعَه ملكًا، يحلمُ بمملكتِه وملكته التي ستضيءُ له عالمَه، إنّها البساطة، إنّه الحبّ مجردًا من الشوائب.

أذكرُ أنْ أحد أقربائي كانَ يرسلُ سلاماته معي ويدفع لي أجرًا/ كروة على ذلك ليرةً واحدة، كانت تكفيني لشراءات اليوم كلّه. مرةً أرسلَ خاتمًا فكانت كروتي خمس ليرات عشتُ بها يومًا لا يُنسى. لاحقًا تزوج ذاتَ الفتاة، والآن لديهم أطفال وبيت جميل ولا يزال الحبّ قائمًا بطريقة كلاسيكية لا تشبه هذا الزمن الحداثي.

كانت القرية ساحةً للأحلام التي نسحلها وراءنا بخيطِ خيالنا الواسع ونطوف بها، كنّا نلعب لعبة الحرب أو كما نسميها "الكساري"، ونقسمُ يمينًا: والله العظيم قتلتك. تنتهي اللعبة بفوز فريقٍ ما وخسارة الآخر بموتهم كلهم، ثم نجتمع كلنا أحياء وننصرف إلى بيوتنا متعبين من الحرب.

يجتمعُ عند كلّ عصر من أيام الصيفِ والربيع شيّاب القريّة عند حائط "حوش جاسم الشريف" وتبدأ الهرجات/الحكايا والمزاودات التي تحمل في أغلبها الفكاهة والمرح، لعبة (المنكلة) والشاي الذي يأتي من الجيران، التعليقات الساخرة على المارة من الجيل الجديد، لم تكن السخرية لاذعة ومحبطة، كانت مبطنة بحكمة ما.

مرّت الأيام، لنكبرَ ونهرم ربّما، البئر الهرمُ شاخَ وانتهتْ حكاياه بجفافِ سَرَبِهِ فردموه وتركوا الذكريات معلّقة فوقه كالأشباحٍ.

غادرتُ القرية وسكنتُ البريّة بعيدًا عن ضجيج الحياة، تغيّرتْ كلّ الحكايا، لعبة "الكساري" تحولّت إلى حقيقة، فهربنا منها متعبين إلى بلاد لا نعرف عنها سوى الخرافات، والذين ماتوا دون أن يحلف أحدٌ أنّهم ماتوا، بكينا عليهم وعلّقنا قربَ ظلالهم التي لا تموت شواهد متوّجة بأسمائهم فكسّرها الفاتحون الجدد، ولبستِ الحياة ثوبَ الهجرةِ الأسود، ماتَ أغلبُ الشيوخ تاركين وراءهم فراغًا معقّدَ التكوين، ولم يعد للسيناريو سوى احتمال واحد؛ الأمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وأنتِ ترتدين ثوبَك

مسافات خانقة