15-يوليو-2019

حسن بليبل/ لبنان

تشف عبارة "إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا يجري في البرازيل"، التي واظب على ترديدها الفنان القدير نهاد قلعي في دور الصحفي حسني البورظان، طيلة حلقات المسلسل الكوميدي صح النوم، عن تهكم عميق على واقع حياة السوريين في ظل دولة الأسد القمعية، التي تسد على الناس كل محاولة لتعرفهم على طبيعة السلطة المتوحشة التي تحيل حياتهم إلى جحيم، الأمر الذي ظل يسقط في أيديهم كل وسيلة ممكنة لمقابلة عنف السلطة المتجبرة، سوى بالسخرية منها والتعريض بلاعقلانيتها المتهافتة.

"إذا ما أردنا أن نعرف عما يجري في إيران علينا أن نعرف ما يجري في لبنان".. هذا لسان حال نصر الله باستعارة جملة حسني البورظان الشهيرة

في سياق فهم دلالة الخطاب الذي أدلى به زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله في الذكرى الثالثة عشر لحرب تموز/يوليو مع إسرائيل 2006، سرعان ما يتم تحويل المعنى المجازي الساخر لتلك العبارة إلى حقيقة واقعة تشرح طبيعة العلاقة بين إيران الخامنئي ولبنان نصر الله، وهي علاقة لا يمكن تصورها خارج السياق التالي "إذا ما أردنا أن نعرف عما يجري في إيران علينا أن نعرف ما يجري في لبنان".

اقرأ/ي أيضًا: كيف يمول حزب الله عملياته عبر تجارة المخدرات

حسن نصر الله في خطاب الإبادة الذي هدّد به اسرائيل رد فعليًا بذات المستوى، أو أكثر، على التهديد الإسرائيلي لحزب الله بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، بقدر ما كان يرد على التهديد الأمريكي الذي سبق أن هدّد به ترامب إيران، في حال أصرت على المضي في مشروع هيمنتها الإقليمي في المنطقة على نحو يضر بمشروع الهيمنة الإسرائيلي، الأمر الذي يجعلنا نتعرّف على نصر الله كرجل لا يُستفز ويهدّد بالمحو والإزالة إلا إذا تعرضت ولاية الفقيه للتهديد، أما ما دون ذلك من طحن إسرائيلي للبنان أو غزة فهو أمر يأتي في مصاف نوع من المصير القدري الذي يجب على المرء تجرع ألمه والتفكر بالحكمة الإلهية التي تقف وراء ذلك!.

في أفضيلة إبادة طرف لآخر وإعادته للعصر الحجري تتمتع إسرائيل والولايات المتحدة بميزة نسبية على إيران وحزب الله معًا، وهنا لا يتم التوقف أمام أفضلية مناقبية بقدر ما هي متعلقة بإجرام إسرائيل وإرهاب الإمبريالية الأمريكية. فلم تتردد إسرائيل فعلًا في تحويل قرى الحاضنة الشعبية لحزب الله، كما الضاحية الجنوبية في تموز/يوليو 2006 إلى أرض يباب وعصر حجري حقًا، الأمر الذي نتج عنه التسبب بمليون لاجئ لبناني في سوريا، وكان يمكن للمرء أن يتصوّر تدفق جميع سكان لبنان لو أن العنف الاسرائيلي الماحق وجّه نار انتقامه على كامل مساحة لبنان ولمدة أطول من الـ33 يومًا، في حين ظل التأثير الصاروخي لحزب الله على الداخل السرائيلي أقلّ من حالة الإبادة الإسرائيلية للداخل اللبناني بكثير، مع الآخذ بعين الاعتبار الأثر الذي خلفته رشقات القصف على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.

يستطيع حزب الله أن يفاخر بالإبادة والتطهير، لكن ليس  بالضرورة ضد إسرائيل التي لا تهديد استراتيجي قائم فعلًا لها يوفر مساحة للتفكير بالإبادة، وإنما ضد سكان القرى والبلدات السورية التي لم يترك طريقة لإبادة سكانها الخارجين من تحت عباءة العبودية لآل الأسد إلاّ اتبعها، ابتداء من القصف الوحشي والذبح بالسكاكين، وصولًا لمحاصرة السكان وتعريضهم لخطر الموت جوعًا.

يتبنى نصرالله المشروع الإيراني ويجعل من نفسه ومن حزبه الطائفي رأس حربة في تحقيقه

في الخطاب، يتخذ حسن نصر الله دور "الباب"، أو الناطق بكلام ظل الله على الأرض السيد علي خامنئي، فيكاد يقول كل شيء بكل صراحة انطلاقًا من كونه زعيمًا حزبيًا لطائفة لا قيود على كلامه، على عكس وليه الفقيه المحتجب خلف ستار من السرية والتحفظ التي تمنعه أن يفصح عن مكنونات نفسه التي قد يساء تفسيرها، أو قد ينال من مكانته كأمام معصوم فوق المساءلة والنقد. فالوجود الإيراني وفقًا لنصر الله في سوريا دائم وأبدي، وهو في العمق والجوهر حلولي، تكاد تحل فيه الذات والإرادة والإيرانية محل الإرداة والذات الأسدية، فهو ليس كما يظنه البعض تحالف بين دولتين ترتبطان بتوجهات ورؤى متقاربة ضد عدو مشترك هو إسرائيل، بل هو حالة من حالات الاستتباع والهيمنة التي تقوم بها شركة أم ضد شركة فرع، إلى الدرجة التي قد تتحول فيها سوريا الأسد من حليف ند إلى أداة من أدوات إيران الخارجية، التي يمكن أن تستخدم في بازار المساومات أو التضحية بها في إطار توسيع رقعة نفوذها الإقليمي.

اقرأ/ي أيضًا: "ليبرالية" الممانعة.. تلق طائفي للأخلاق

يبشرنا نصر الله في جميع خطاباته بانتصار وحتمية المشروع الإيراني دون أن يكشف لنا الوجه الحقيقي لهذا المشروع، الذي لا يختلف في الجوهر عن أي مشروع توسعي استعماري على نمط المشاريع التوسعية الاستعمارية في القرن التاسع عشر، التي كانت تتوخى الاستيلاء على أراضي الآخرين بقصد تحقيق رخائها الاقتصادي على حساب الشعوب التي تدور في فلكها. إلا إنه وخلافًا للمشاريع الاستعمارية الأوروبية التي بررت سيطرتها على الآخرين بدافع تمكين جماعات بشرية كاملة من الدخول لعصر الحداثة الأوروبية، فقد تم التقديم للمشروع الإيراني تحت يافطة الأخوّة الدينية أو المذهبية، أو ثورة المستضعفين كما يقال، فحيثما وجد مستضعف مسلم أيًا يكن مذهبه فإن الإيرانيين سيكونون أولياء نعمته وكرامته والمدافعين عنه، حتى لو أدى ذلك إلى استخدام القوة ضد من يستضعفه، أي سلطات الدولة التي يعيش فيها، وهو كلام تبريري خطير يراد به تبرير العنف الذي سيستخدمه المشروع الإيراني لترسيخ حضوره في المنطقة العربية التي يرغب بالتوسع في نسيجها الاجتماعي والجغرافي.

 لا يختلف المشروع الإيراني في الجوهر عن أي مشروع توسعي استعماري على نمط المشاريع التوسعية الاستعمارية

يتبنى نصرالله المشروع الإيراني ويجعل من نفسه ومن حزبه الطائفي رأس حربة في تحقيقه، دون أن ينبته لمأزق المشروع ذاته من حيث كونه مشروعًا دينيًا لمذهب خلافي في الذاكرة الشعبية، يحاول التوسع والتمدد بعد فترة من ترسيم الحدود المذهبية داخل الوجدان الشعبي للناس منذ فترة طويلة جدًا، ودون أن ينتبه أن استقطاب المسلمين العرب وفق المذهب الشعيي سوف يطلق ردة فعل من المذهب الوهابي بنسخته السعودية، الأمر الذي يعني فيما يعنيه استعادة أجواء الأحقاد والنوازع الطائفية التي تكونت عبر الصراع السلطة في الإسلام، بما يهدّد بسنوات من الحروب كانت الحرب العراقية الايرانية أحد تجلياتها. يضاف إلى ذلك أن المشروع العقائدي الإيراني يحمل في داخله كل الحمولات الفكرية للعصر الوسيط التي كانت تنزع عن الإنسان المسلم الاعتراف به كفرد له حقوق ديمقراطية مصانة، الأمر الذي يعني انحيازه إلى أساليب الاستبداد الديني التي ثارت البشرية على موروثها المخزي المتعلق بهدر الكرامة الانسانية.

إن غياب الطابع الديمقراطي عن المشروع الإيراني يجعل منه حليفًا لكل نظام إبادة جماعية كنظام بشار الأسد، وحليفًا لكل زعيم طائفة متأله كحسن نصر الله والحوثي

اقرأ/ي أيضًا: إعادة إنتاج الكبت الجنسي.. حزب الله نموذجًا

إن غياب الطابع الديمقراطي عن المشروع الإيراني يجعل منه حليفًا لكل نظام إبادة جماعية كنظام بشار الأسد، وحليفًا لكل زعيم طائفة متأله كحسن نصر الله والحوثي، الأمر الذي يضعه في مواجهة مع كل المستضعفين الذي يدعي أنه جاء لتحريرهم، فيما هو لا يفعل شيئًا سوى استعبادهم. إن تلطي المشروع الإيراني وراء القدس وتقديم نفسه كوصي شرعي على قضيتها، ونقل الصراع من حيث كونه صراعًا مع مشروع استعماري يحمل في داخله كل صفات نظام الأبارتيد العنصري، لا يفيد القدس ولا أهلها ولا مناصري قضيتها في شيء، فالأصل في المشروع الوطني الفلسطيني هو أن يكون مشروعًا ديمقراطيًا منفتحًا على قيم العصر لا مشروعًا استبداديًا ظلاميًا بلبوس ديني.

نعثر في الخطاب على حسن نصرالله بابًا من أبواب آية الله العظمى، موزعًا خطابه بين وجهتين، يظهر في الأولى كممثل لوجهة الناطق باسم الولي الفقيه الغاضب والمتحدي الذي يوزع رسائله الخارجية لكل من يهمه الأمر، بينما في الأخرى ينطق بوجهة نظر الحاكم الفعلي للبنان الذي يوزّع الوطنية والولاء والرضا والغنائم. فوليد جنبلاط وفق هذه الرؤية متمرد آبق لأنه تجرأ على الاستخدام غير الشرعي لسلاح حزبه، في قضية الاستقواء به في حل الخلافات السياسية داخل الحيز اللبناني، لذا توجب عليه تأديبه عبر تحديه في عقر داره من خلال مشروع معمل إسمنت آل فتوش تارة، وتارة أخرى عبر إصراره للذهاب مع رغبة طلال أرسلان في تحويل حادثة قبر شمون إلى المجلس العدلي أملًا في استصدار قرار لحل الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه جنبلاط ليكون عبر لغيره.

في سلوكه السياسي كما في خطابه، يمثّل حسن نصر الله الوجه الصريح للسياسة الإيرانية أينما حلت، تلك التي لا ترضى بأقل من تفتيت اللحمة الوطنية للدولة عبر خلق مليشيات تعادل قوتها وتنال من هيبتها، فحزب الله من جهة حزب سياسي في دولة تقوم على التعددية السياسية، ومن جهة أخرى ميليشا فوق الأحزاب والقانون والدولة، بل إنه يكاد يشكل دولة في داخل الدولة، ولا يتوقف عن المزايدة عليها في ضعفها في إطار السياسة الدفاعية كما في ضعفها في مجال السياسة الاقتصادية والخدماتية وغيرها من جهة، بينما يمارس اقتصاد ظلٍّ قوامه المتاجرة بالمخدرات وتهريب المواد الأخرى وتبييض الأموال من جهة أخرى، في حين يظل يحتفظ في نفس الوقت بميليشيا سلطوية يكاد عديد أفرادها وقوتها العسكرية تعادل قوة الدولة اللبنانية بمئات المرات.

في سلوكه السياسي كما في خطابه، يمثّل حسن نصر الله الوجه الصريح للسياسة الإيرانية أينما حلت

سيظل نصرالله في كل خطاب يلقيه يتدثر برداء تحرير القدس التي يعجز عن تحريرها، اللهم إلا في جعلها تمر بمدن الزبداني والمعظمية وداريا، أو في حمص وحلب ودير الزور.

اقرأ/ي أيضًا: الأسد وحزب الله في المرآة الجنبلاطية

الأساس في قضية القدس عنده التطبيل والتزمير للمشروع الإيراني القائم على الهيمنة وفق منطق الاستعلاء القومي والديني معًا، كما استخدامها في المساومة مع الأمريكي والإسرائيلي لنيل شرعية القيام بدور شرطي أو بلطجي المنطقة، بقصد تعظيم منافعه على حساب شعوب المنطقة، أما ما دون ذلك من تهديد بإعادة محتليها إلى أزمنة العصر الحجري، فما هو إلا تهويش لا طائل منه وتعمية عن الهدف الحقيقي لوجود ايران المتمثل بالهيمنة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ميليشيا وئام وهّاب: استعراض الضعف في دولة الطوائف

الإقطاع السياسي اللبناني.. ع السكين يا جمهور!