07-سبتمبر-2015

جنبلاط في الإليزيه.. بدون تيمور (برتارند لانلوا/أ.ف.ب/Getty)

يردّ النائب سليمان فرنجية على انتقاده انطلاقًا من شروعه بالتوريث السياسي بالقول: "لماذا لا يُنتقد الرحابنة وقد ورثوا جميعًا الفن عن عاصي ومنصور؟ لماذا يقتصر النقد على التوريث السياسي ولا يتعداه ليطال التوريث بشكل مطلق؟"، للوهلة الأولى يبدو الرجل مُحقًا. لكن هذه مزحة سمجة. التوريث السياسي توريث للسطة لا توريث للذوق العام.

في أية حال، يندرج الإقطاع السياسي في لبنان تحت ثلاثة عناوين مختلفة، تنطلق من توريث تقليدي إن لشخصيات أو "بيوت سياسية"، وإن لأحزاب عائلية تتمتع بهامش من التنوع والديمقراطية، وتمرّ بالإقطاع السياسي الواضح الذي يرتكز إلى خصوصيات تاريخية وجغرافية وفكرية حساسة أو إلى حالات التفرد والإستئثار، وتصل إلى إقطاع سياسي يفرضه النفوذ الناعم للدول الفاعلة على مساحة الجفرافيا اللبنانية.

الإطار الأول يتعلق بحالات توريث عادية. أبٌ سياسي يخلفه ابنُ سياسي، شيءٌ أشبه بالنائب الراحل ناظم القادري وابنه زياد، بيار فرعون وابنه ميشال، صائب سلام وابنه تمام، جبران تويني وابنته نائلة، ميشال المر وابنه الياس، عبد الحميد كرامي ثم رشيد ثم عمر ثم فيصل .. إلخ. أمثلة لبنانية كثيرة.

تعبر حالة المحاور عن إقطاع سياسي منمّق، ربما يتخلله وراثة سياسية واضحة

في هذا الإطار يحضر أيضًا توريث من نوع مختلف، هو توريث حالة سياسية عريضة تتخطى منطق الفرد وتتوسع لتطال شريحة أكبر وأشمل. شيءٌ من قبيل توريث التيار الوطني الحر وما يمثله من حالة سياسية وشعبية للوزير جبران باسيل/ زوج ابنة المؤسس. التوريث هنا يتخطى الحالة الأولى كونه يخضع لتوازنات وتعقيدات مختلفة تتعلق باحترام النظام الداخلي للحزب أو التيار، ناهيك عن مروحة واسعة جدًا من المشاركين والفاعلين، وبالتالي فإن حالة التوريث هنا منوطة بقرار المؤسس في المرحلة الأولى لكنها تخضع لتصرف الوريث في المراحل اللاحقة. بالفعل، بايع الجميع ولي العهد، سمو الأمير جبران باسيل.

هذه الحالة تنطبق أيضاً على حزب الكتائب، من بيار المؤسس مرورًا بالشيخ أمين وصولًا إلى سامي، وعلى حزب الوطنيين الأحرار، من الرئيس كميل شمعون مرورًا بداني وصولًا إلى دوري. وهي أحزاب قاتلت في الحرب، ومات في صفوفها آلاف المقاتلين، وبسببها عشرات آلاف اللبنانيين، وهي أحزاب... لعائلات.

أما الإطار الثاني يتعلق بالإقطاع السياسي انطلاقًا من عوامل طائفية أو مذهبية أو مناطقية وحتى أيديولوجية تُحتّم التفرّد والتوريث كأمر واقع ونهائي. حالة مماثلة لحالة النائب وليد جنبلاط الذي يُشكل حضوره وحضور عائلته حاجة لمريديه انطلاقًا من عوامل أساسية كثيرة تتعلق معظمها بالوضع المذهبي والمناطقي والأيديولوجي وبطبيعة التفكير الجماعي لهذه الحالة التي يُمثلها النائب جنبلاط. مكننا هنا أن نؤكد هذه النظرية انطلاقًا من العلاقة الاستراتيجية التي تجمع غالبية الدروز المنتشرين خارج الجغرافيا اللبنانية "سوريا، فلسطين .. إلخ" بالنائب جنبلاط، إضافة إلى الهامش الكبير الذي يتمتع به جنبلاط في حركته السياسية، يمكنه، مثلًا، أن يترك تحالف وينتقل إلى آخر بين ليلة وضحاها وسيتبعه الجميع بلا أي ضجيج يُذكر. ولكي لا ننسى، جنبلاط ورث الزعامة عن والده كمال، هو الآخر.

بناءً على ما تقدم، يُمكننا فهم عدم بروز تيمور جنبلاط "الوريث المفترض" وعدم الحاجة إلى إبرازه كما هي الحالة مع سامي الجميّل وجبران باسيل. ربما يصبح تيمور نائبًا في البرلمان دون أن يدلي بأي تصريح أو موقف علني ودون أن يقوم بحملات شعبوية تعزز حضوره. ليس بحاجةٍ إلى كل ذلك، إنه الحاضر الوحيد والجميع موافق. ثمة حالة مشابهة يُمثلها النائب سليمان فرنجية، التشابه هنا يتعلق بالجانب المناطقي، بحيث أن النائب فرنجية ورث زعامة إقطاعية في منطقة زغرتا ومحيطها. لا حاجة هنا أيضًا لتبرير التوريث، الجميع موافق. يكفي أن يقول النائب فرنجية إن طوني سيخلف أباه، حتى يُصفق الجميع. هذه الحالة تتشابه مع حالة الوزير السابق إيلي سكاف الذي ورث حالة إقطاعية مماثلة في منطقة زحلة ومحيطها. في هذا الإطار، يحضر الإقطاع السياسي عبر حالات التفرد والاستئثار المطلق قبل الوصول إلى إمكانية التوريث من عدمه.

في ما يلي أبرز الشخصيات السياسية التي تفردت، ولا تزال، بالمناصب السياسية أو الحزبية على مدى عقود طويلة "الرئيس نبيه بري، يترأس المجلس النيابي منذ العام 1992 ويترأس حركة أمل منذ العام 1980 ولغاية اليوم. النائب وليد جنبلاط، يترأس الحزب التقدمي الإشتراكي منذ العام 1977 ودخل إلى البرلمان اللبناني عام 1991 ولا يزال نائبًا حتى اليوم. الدكتور سمير جعجع، يترأس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية منذ العام 1986. السيد حسن نصر الله، يشغل منصب الأمين العام لحزب الله منذ العام 1992".

بينما الإطار الثالث يتعلق بالنفوذ الناعم للمحاور المتصارعة على مستوى الإقليم والعالم، بحيث تعمد هذه المحاور إلى رسم السياسات العريضة وإلى لملمة أي تدهور محتمل وتغطية أي إجراء تنظيمي أو سياسي، هذه الحالة هي عبارة عن إقطاع سياسي منمّق، ربما يتخلله وراثة سياسية واضحة، كما هي الحال مع تيار المستقبل. وربما يذهب إلى تنوع شكلي، كما هي الحال مع حزب الله.

رفيق الحريري قال غير مرة إنه لا يرغب بتوريث نشاطه السياسي لأي من أبنائه لكن رحليه المباغت أتى بسعد

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري سارع الجميع إلى البحث عن وريث يكمل المسيرة، حضرت المملكة العربية السعودية بقوة على هذا الخط وكان لها الدور المركزي في إختيار الرئيس سعد الحريري. رفيق الحريري قال غير مرة إنه لا يرغب بتوريث نشاطه السياسي لأي من أبنائه لكن رحليه المباغت وطريقة إغتياله وما نتج عنها من رسائل سياسية في غير إتجاه حتّمت العودة بوريث من العائلة.

فالحالة السياسية التي يُمثلها تيار المستقبل هي حالة مزدوجة بين الداخل والخارج كونه يُشكل صلة الوصل بين "السنيّة السياسية" في لبنان وبين المحور الإقليمي الذي تُمثله المملكة العربية السعودية، وبالتالي فإن النفوذ الناعم للمملكة في لبنان مرتبط بشكل شبه كامل بالحالة السياسية التي يُمثلها تيار المستقبل.

وضع تيار المستقبل هذا لا يختلف كثيرًا عن وضعية حزب الله، فهو يُشكل أيضًا صلة الوصل بين الشيعيّة السياسية في لبنان وبين الرابط الإقليمي المتمثل بإيران، مع ما يعنيه ذلك في مضامين السياسة، إنطلاقًا، من النفوذ الناعم وصولاً إلى موطئ قدم على ضفاف المتوسط. الفارق الوحيد في هذا الإطار هو في الإخراج. حزب الله لم يشهد أي حالة من التوريث العائلي، فيما يغلب على تيار المستقبل هذا الطابع، من مؤسسه ورئيسه مرورًا بأمينه العام وصولًا إلى الحضور الوازن في الكتلة النيابية. غير أن بعض هؤلاء النواب، ما زال نائبًا هو الآخر من عشرين عامًا.